الأحد، 6 أبريل 2014

تأمـلات في ســورة البـلـد


الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ..
هذه تأملات في سورة البلد ..

= في سورة البلد على العموم استوفت كل عناصر البلاغ والإرسال : موطن الرسالة ) لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( والرسول ، ) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( والمرسل إليه وهو الإنسان ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( والرسالة وهي الإيمان والعمل الصالح
) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( .
وأصناف الخلق بالنسبة للاستجابة للرسالة ( أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة )

= هي سورة مكية ابتدأت بالقسم بالبلد الحرام بلد الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه لفتة لأن الكفار آذوا رسول الله في بلد الله الحرام الذي يجب أن كون آمنا وفي هذا توبيخ لهم على أنهم استحلوا حرمة المكان وهي من الكبائر عند الله تعالى :
)  لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( .
= لم يرد في القرآن كلّه ) أقسم بـ ( أبداً، كل القسم في القرآن ورد باستخدام ( لا ) كقوله تعالى : 
) لا أقسم بمواقع النجوم ( ) ولا أقسم بالخنّس ( ) فلا وربّك لا يؤمنون ( وهكذا في القرآن كله ، وتدور
( لا ) في كل هذه الأقسام على أنها توكيد للقسم بمعنى )  لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( إذن الغرض للتوكيد لأن الأمر فيه عناية واهتمام .

= ) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( حل لها عدة معان : حال في البلد تبلغ الدعوة وتلاقي ما تلاقي ،                   وأنت مستحلٌ لا تُراعى حرمتك ، وأنت حلال بهذا البلد تقتل من تشاء وتأسر من تشاء في وقت من الأوقات ( هذه كلها تشير إلى معاني كلمة حِل ) ، ولو جاء باسم الفاعل ( حال ) لاقتصر على معنى واحد من هذه المعاني المتعددة
لكن المطلوب كل هذه المعاني فجاءت كلمة ( حِل ) لمناسبتها لمقتضى المعنى .

<> <> <> <> <> <> <> <>
= ما الحكمة في أن يرد القسم في سورة البلد )  لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( بدون استخدام كلمة الأمين
كما في سورة التين ؟
قيل لأن جو السورة كلها فيه ذكر للمكابدة والمشقة واستحلال الحرمات وما أصاب الرسول في هذا البلد وليس في السورة مجال لذكر الأمن .

= سورة البلد تكرار كلمة ( البلد ) هي في مقام التعظيم. ويذكر أيضاً سبب آخر للتكرار وهو أن البلد المقصود به مكّة وهو بلد حرام لا يسفك فيه دمٌ ولا يروّع فيه آمن ولكن الله تعالى أحلّ لرسوله r في يوم الفتح أن يفعل ما يشاء من قتل أو أسر فكأنما البلد صار غير البلد في يوم الفتح فأصبح
له صفتان: حالة الحلّ وحالة الحرب وكأنه أصبح بلدين فكرّر سبحانه كلمة البلد لتكرار الوصف .

<> <> <> <> <> <> <> <>

= الكبد له أكثر من دلالتين فهو يعني :
1. الشدة والمشقة : يكابد مشاق الدنيا والآخرة ولم يقل خلقنا الإنسان مكابداً.                             ( في كبد ) تعني أنه مغمور في الشدائد والمشقات منذ قطع سرّته والمشاق تحيط به وهو
منغمر فيها إلى أن يقتحم العقبة فأما أن ينجو أو أن يكون في النار.
2. للقوة والصلابة والشدة: والكبدة هي القطعة من الأرض الصلبة يقال ( أرض كبداء ) لأن الذي خُلق للمشاقّ ينبغي أن يكون متحملاً للشدائد فهي من لوازم المعنى الأول.
أما ارتباط الجواب بالقسم: السورة كلها مبنية على هذا الأمر أي الكبد وكل تعبير مبني على ذلك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ( حلّ ) يلقى من قومه ما يلقاه من العنت فهو في كبد مم يلاقيه من المشقة وهو يلقاها بقوة وثبات وتحمّل .
وكذلك ارتباط ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (
فالولادة مشقة وعنت وتحتاج إلى مثابرة وقوة للتربية، كما هي مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة ومشاقّ الجوع في يوم ذي مسغبة.
= خلق الله الإنسان يعيش يُكابد أهوال الدُنيا وشدائد الآخرة .
قال العلماء :
أول ما يُكابدهُ المرءُ حال يُولد قطعُ سُرتهِ ثم تستمر المكابدة في طلب العيش والمرض وهموم تربية الأولاد وغيرها مما لا يخفى حتى يُكابد نزع روحهِ ثم يُكابد في القبر ضمة القبر " إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبدُ الصالح " أي سعد ابن معاذ ، ثم يواجه ظُلمة القبر " إن هذه القبور مملوءةٌ ظُلمةً على أهلها وإن الله ينور عليها بصلاتي عليهم " صلوات الله وسلامهُ عليه يقول ويواجهُ الإنسانُ سؤال الملكين وهذا من المُكابدة ثم يواجه البعث والنشور ثم ينتهي بنا الأمرُ إلى دار القرار إما إلى جنة و إما إلى نار ، يُصبح من الحقائق الواقعة ـ أيُها المُبارك ـ أنهُ لا راحة للمؤمن دون لقاء الله ، لا يُمكن أن تكون هناك راحة حتى تلقى الله ، أما من حين ما ولدنا إلى أن نموت إلى أن نُبعث إلى أن نُعرض للحساب يبقى الإنسانُ خائفاً وجلاً حتى يُخلف جسر جهنم وراء ظهرهِ ..
<> <> <> <> <> <> <> <>
= ) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (
قسم من المفسرين يقول هو موجّه للذي يستضعف المؤمنين والذي يفتن المؤمنين ويعذبهم. وقسم من المفسرين قال أنه الخطاب ليس مقصوراً على هذا الجنس بالذات وإنما هو موجه للإنسان عموماً ، لأن البشر يظنون أن لن يقدر عليهم أحد فيظلم بعضهم بعضا ويضرب بعضهم رقاب بعض. فالبشر يرون أن لن يقدر عليهم أحد والذين يستضعفون المؤمنين يظنون أن لن يقدر عليهم أحد. والله تعالى سبحانه ذكر في هذه الآية والآية التي بعدها أمرين عظيمين يعتصم بهما الإنسان ويعتقد أن لا أحد يتمكن منه وهذان الأمران هما : المال والقوة .. يعتصم بهما الإنسان ويرى أنهما أداتا الضغط والتسلط على الآخرين. وقد جمع القرآن الكريم بين هذين الأمرين للدلالة على التسلط كما في قوله تعالى: ) همّاز مشّاء بنميم* منّاع للخير معتد أثيم* عتلٌ بعد ذلك زنيم* أن كان ذا مال وبنين  (.

<> <> <> <> <> <> <> <>

= استخدام كلمة ) أَهْلَكْتُ  (بدل أنفقت ..
هذه هي الآية الوحيدة في القرآن كله التي استعمل فيها الإهلاك مع المال، عادة تأتي الإنفاق لكن اختيار كلمة أهلكت في هذه السورة مناسب لجو السورة ومناسب لما تقدمها ولما يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في لحظات الشدائد التي أدت إلى إهلاك بعضهم ومناسب للعقبة ومناسب ليوم ذي مسغبة لأن الذين لم يطعموا في ذلك اليوم أهلكوا ومناسب مع أصحاب المشئمة الذين أهلكوا ومناسب لكل إنفاق بغير وجه مناسب لأنه يعتبر إهلاكاً للمال وليس إنفاقاً في الخير.
إذن جو السورة هكذا في إهلاك المال بغير وجهه وكل السورة مشقة وإهلاك .
 "أنكر سبحانه على الإنسان قوله: ) أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا  (.
وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض، فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه، إذ
لو أنفقه في وجوهه التي أمر بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكاً له بل تقرباً به إلى الله وتوصلاً به إلى رضاه وثوابه وذلك ليس بإهلاك له. فأنكر سبحانه افتخاره وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه بها إهلاك له" .
= قوله : ) لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( أي راقب الشخص لم يقل أيحسب أن لم يعلم به أحد ، لكنه قال يره لأن الرؤية أهمّ وأخصّ من العلم وهناك فرق بين العلم بالشيء ورؤيته. فالرؤية هي التي تدلّ على تفاصيل الأمور ومراقبتها لذا فالرؤية أخصّ. ويره هنا من المراقبة لأن الله تعالى يراقب ويعلم كل ما يقوم به المخلوقات.
= ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( النجد هو التعبير الوحيد المستعمل في القرآن فقد ورد في القرآن كلمة السبيل والصراط والنجد يعني الطريق المرتفع. وأغلب المفسرين يقولون لا يكون إلا قفاً وصلابة في الأرض في ارتفاع مثل الجبل. وأغلب المفسرين قالوا أنه يعني طريق الخير وطريق الشر. واختيار كلمة النجد مناسب تماماً لجو السورة فلم يقل هديناه السبيل لأن السبيل هو الطريق السهل الميسّر الواضح التي يكثر السير فيها، أما سلوك النجد ففيه مشقة وصعوبة ومناسب لجو السورة وما فيها من مشقة ومناسب للمكابدة في جو السورة. وسلوك النجد يحتاج إلى قوة وفيه شدّة وصعوبة ومناسب للكبد في السورة.
إذن فالنجدين تتواءم مع السورة من حيث القوة والمشقة والمكابدة.

<> <> <> <> <> <> <> <>

= ثم قال بعدها : ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( والعقبة هي طريق في الجبل وعِر أو الجبل الطويل بعرض الطريق (طويل صعب شديد) هذا في العقبة أما الاقتحام فهو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقّة         ( والقحمة هي الشدة والمهلكة) .
فلو لاحظنا اختيار العقبة مع اقتحم وبعد النجدين لوجدنا أن النجد وهو الطريق المرتفع يؤدي
إلى العقبة من حيث سلوك الطريق، والعقبة تقع عادة بعد النِجاد أو في المرتفعات من الأرض إذن وضع العقبة بعد النجدين ومع كلمة اقتحم هو وضع طبيعي حداً وهو من الناحية البلاغية البيانية الفنية ذروة البلاغة .
= ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( تفيد إذن في هذه الحالة نفي الاستقبال بمعنى لا يقتحم العقبة في المستقبل.
ومنهم من قال إنها استفهام وقد حذفت همزة الاستفهام ( ألا اقتحم العقبة) وكأن هذا الاستفهام للتوبيخ على ما حصل وللحضّ على اقتحام العقبة.

<> <> <> <> <> <> <> <>

= ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( التكرار في اللغة مشهور وله أغراض قد يكون منها التهويل والتعظيم والتحسّر والتفخيم والتحبيب .
وفي هذه الآية جاء التكرار للتفخيم والتهويل والتعظيم لأمر العقبة وما سيفسرها فيما بعد وقد ورد التكرار كثيراً في القرآن الكريم كما في قوله تعالى :
( القارعة ما القارعة ) و ( الحاقة ما الحاقة ) .

= إن من أعظم القُربات التي يتجاوز بها العقبة الكؤود أن يقتحم الإنسان العقبة بإطعامهِ لليتامى والمساكين فإطعام الطعام من أعظم ما يُقرب إلى الله قال صلى الله عليه وسلم " افشوا السلام واطعموا الطعام وصلوا بالليل والناسُ نيام تدخلوا الجنة بسلام "
والإنفاقُ جاء في القرآن على ثلاث منازل :
إنفاقٌ عام : مثل قوله جل اسمه وتبارك اسمه قال :
) وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ  ( ) وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (
وإنفاقٌ أعلى منه : وهو أن ينفُق الإنسان من مالٍ زائدٍ عندهُ لكنهُ يُحبهُ ومنه قول الله : ) وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ( .
وقوله جل وعلا : ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ([الإنسان : 8] .
والمرحلة الثالثة : وهي أعلاها أن يُنفق مع حاجتهِ قال الله في وصف أهل المدينة الأولين قال : 
) وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ([ الحشر: 9]
أي بهم حاجة وهذا أعلى المنازل .
<> <> <> <> <> <> <> <>
= ثم قال الله في ترتيبِ ذكري لا ترتيبٍ زمني قال : ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( ، ومعلوم أن الإيمان مُقدم على الإطعام ولا يُمكن أن يُقبل إطعام إن لم يكن يوجد إيمان ، فثُم هنا ليست كما يقول النُحاة للتعقيب والتراخي لكنهُ تعقيب وتراخي في الذكر لا في الزمن وإلا
لا يقبل الله من أحدٍ عملاً ما لم يكن ذلك العمل خالصاً لوجههِ .

= ذكر التواصي بالصبر أولاً ثم التواصي بالمرحمة لأنه تعالى قدّم في السورة ما يحتاج إلى الصبر من المكابدة والمشقة واقتحام العقبة والنجدين وكلها يحتاج إلى صبر ثم إلى مرحمة ( في اطعام اليتامى والمساكين ) والله أعلم .

= الميمنة احتمال أن تكون من اليُمن أي الخير والبركة، أو من اليمين أي الاتجاه اليمين أو من أصحاب اليمين الذين يُعطون صحائفهم بأيمانهم ، والمشئمة من الشؤم وهو ضد اليُمن لأنهم كانوا أصحاب الشؤم على أنفسهم .

<> <> <> <> <> <> <> <>

= قال (هم) مع الكفار ( هم أصحاب المشئمة ) ، أما أصحاب الميمنة لم يذكر معهم (هم) لأنه لو قال هم أصحاب الميمنة لكان أصحاب الميمنة حصراً على هؤلاء الذين ذكرهم في الآيات السابقة ولكن أصحاب الميمنة أكثر من هؤلاء .
الذين يتواصون بالصبر ويتواصون بالمرحمة هؤلاء فقط أصحاب الميمنة وهذا غير صحيح ،  
لأن رأس الأمر الإيمان بالله وهؤلاء إذن من أصحاب الميمنة وليسوا أصحاب الميمنة حصراً
فلا يصح القصر هنا أبداً بمعنى أن من عداهم ليسوا من أصحاب الميمنة .

<> <> <> <> <> <> <> <>

= اختار لفظ ( مؤصدة ) بالهمزة لأنها مناسبة للحالة التي هم عليها فاليوم ثقيل وما هم فيه ثقيل حتى صوت الهمزة في ( مؤصدة ) وقعها ثقيل على السمع وهو أنسب مع جو المكابدة في السورة .
( مؤصدة ) هل تعني مغلقة أو تعني مُطبقة؟ بعض العلماء قالوا هي على معناها مغلقة عليهم وبعض العلماء قالوا في قوله ( عليهم نار مؤصدة ) ، أي كأن النار جاءت من علو غطّتهم كأنها مطبقة عليهم بسبب حرف الجر ( على ) وقلنا أن هذه الصورة عندما نقول عليهم كأنه نزلت عليهم وشملتهم وغطّتهم وكلا القولين له ما يؤيده من لغة العرب .

<> <> <> <> <> <> <> <>


هناك 3 تعليقات:

  1. جزاكم الله خير على حسن التحليل والتعليل

    ردحذف
  2. جميل ما شاء الله

    ردحذف
  3. زادكم اللهم علما و وفقكم إلى أحسن العمل!

    ردحذف