السبت، 29 مارس 2014

تأملات في سورة الشمس


الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على سيد المرسلين ..
أمــا بعــــد :
نستأنف دروسنا في تدبر القرآن الكريم ومع سورة الشمس ..
-----------------------------------------------

= سورة الشمس وهي سورة مكية بالاتفاق .. والاسم الشهير لها هو هذا الاسم "سورة الشمس" وهذه قد وردت في كثير من المصاحف وكتب التفسير وغيرها من كتب السُنّة وقد تسمى أيضاً بسورة "والشمس" وقد تسمى أيضاً بسورة "والشمس وضحاها" حكاية لأول السورة، لكن الاسم الأشهر هو "الشمس" ..

= ابتدأت بالقسم بأحد عشر قسما من مخلوقات الله تعالى في كونه ، وهذا القسم العظيم كله على فلاح الإنسان إذا اتقى ربه وهلاكه إذا عصاه ( قد أفلح من زكاها ) وقد تناولت آياتها موضوع النفس البشرية ، وما جبلت عليه من الخير والشر، وأهمية تزكية هذه النفس لترقى بصاحبها إلى جنات النعيم وبيان عقوبة من لم يزكِ نفسه .

= موضوعات هذه السورة فهو كما نلاحظ إقسامٌ بالشمس وبضحى الشمس ، وبالقمر وبالنهار ، وبالليل وبالسماء وما بناها والأرض وما طحاها وبالنفس وما سواها ، فهذه الاقسامات .
وأما قوله : ( وَمَا بَنَاهَا (5)) ، ( وَمَا طَحَاهَا (6))، (وَمَا سَوَّاهَا (7))
فللمفسرين فيها قولان :
إما أن تكون( ما ) بمعنى ( من ) يعني ومن بناها ، ومن طحاها ، ومن سواها وهو الله سبحانه وتعالى .
أو يكون إقسام بالمصدر يعني وبنائها وطحيها وتسويتها فسواء كان هذا أو ذاك فهو في النهاية قسم إما بالخالق سبحانه وتعالى أو بفعله الذي فعله .
ثم أخبر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك في قوله : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)) وهذا تخلّص إلى ذكر أمر هذه النفس وما يحصل منها لما قال :( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)) فبيّن لها طريق الخير وبيّن لها طريق الشر فمن زكّاها فقد أفلح ومن دسّاها بالذنوب فقد خاب .
ثم ذكر مثالاً لمن دسّا نفسه بالذنوب وهم قوم ثمود الذين رأوا وأبصروا الحق ولكنهم لم يؤمنوا فكذبوا بسبب طغيانهم وذكر الله سبحانه وتعالى ما حصل من أشقاهم وهو قدار بن سالف كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم لما عقر الناقة فصبّ الله سبحانه وتعالى عليهم العذاب صباً وسوّاهم جميعاً فلم يخرج منهم أحد عن هذا العذاب والله سبحانه وتعالى قادر لا يخاف عقبى ما فعله سبحانه وتعالى .

= أكثر الله فيها من القسم لبيان حقيقة عظيمة وهي حقيقة أن الفلاح مقرون بتزكية النفوس ،     وهذا الفلاح لا يمكن أن يكون بالنَسَب، ولا أن يكون بالحظّ والصدفة، ولا أن يكون بالغنى والمال، ولا أن يكون أيضاً بمجرد أن يكون الإنسان في بيئة معينة أو من قبيلة محددة وإنما هو بتزكية هذه النفوس .

= وهذه السورة تتحدث عن ربط ظواهر كونية ببعضها من الشمس والقمر إلى الليل والنهار والسماء والأرض وتمر الآيات سريعة في وصف هذه الظواهر الكونية ثم تأتي الآيات تتحدث عن الإنسان ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10))  .
وكأنها تريد أن تعلمنا أن الإنسان هو أهم شيء في الكون كله وأن كل المخلوقات في الكون الفسيح إنما سخّرت لأجل الإنسان فكأنما الإنسان هو المميز بين مخلوقات الله تعالى كلها .

= من اللطائف المناسبة بين اسم السورة الشمس وتزكية النفس أن تزكية النفوس تكون بإشراق أنوار الوحي فيها! وسورة الشمس سميت بهذا الاسم لأنه أبرز ما جاء في مستهلها الشمس وما يفعله نورها، قال في لباب التأويل في معنى التنزيل بعد أن ذكر الأقسام الأربعة :
( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4))
قال :" وحاصل هذه الأقسام الأربعة ترجع إلى الشمس في الحقيقة .
لأن بوجودها يكون النهار ويشتد الضحى، وبغروبها يكون الليل ويتبعها القمر".

= { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }{ قَدْ أَفْلَحَ } أي: فاز بالمطلوب ونجا من المرهوب ،
{ مَن زَكَّاهَا } أي: من زكى نفسه، وليس المراد بالتزكية هنا التزكية المنهي عنها في قوله:            { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ}[النجم: 32].
المراد بالتزكية هنا :
أن يزكي نفسه بإخلاصها من الشرك وشوائب المعاصي، حتى تبقى زكية طاهرة نقية .

= التزكية في أصل اللغة تدل أو لها معنيان :
1- زكّى الشيء أي نمّاه .
2- وزكّى الشيء أي طهّره .
فالتزكية حقيقتها مبنية على ركنين عظيمين :
تخلية .. وتحلية ..
فإذا أردت أن تزكي نفسك فأنت عليك أن تُخلّي هذه النفس من أخلاقها الفاسدة من ذنوبها ومعاصيها، من الشرك بالله عز وجل، من اللهو واللغو وغير ذلك مما ينبغي أن تطهر منه النفس، ثم يجب عليك بعد ذلك أن تحلّيها بالعمل الصالح ، بالإيمان الصادق الصحيح ، بهذين الأمرين تتم التزكية وبهما يرتفع الإنسان ..
وما زكت النفوس بمثل كلام الله تعلما وتدبرا وعملا ..
ومن أسباب تزكية النفوس :
الصلوات ، والذكر ، والعفو عن الناس ، والعلم النافع وكل عمل صالح ..
وبداية التزكية إنما تكون في القلب فإذا زكى القلب سهل على الإنسان تزكية بدنه ، أما إذا زكّى الإنسان بدنه وهو لم يلتفت إلى قلبه كما يفعله مع الأسف كثير من الناس فيغفلون عن قلوبهم مع أن جوارحهم تعمل أعمالاً من التزكية كالصوم والصلاة ونحوها فإن هؤلاء يتعبون وقد يتعثرون في نصف الطريق. الأصل أن تبدأ بالقلب ثم البدن يأتي تبعاً .
= يقول الغزالي رحمه الله :
اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء مبالغة في الشر فرارة من الخير، وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن شهواتها وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك .

= وفي الآيات أيضا دعوة إلى التفكر في مخلوقات الله ، هذه العبادة التي غفل عنها كثير من الناس ، فالله عز وجل يقول : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ) .
فما أعظم هذا الإله الذي خلق الأرض والسماوات العُلى ! ثم انظر ما حولك وما قوّتك! وكم أنت مخلوق عاجز وضعيف، وكم هذا الإله الذي خلق السماء وما فيها وخلقك واسع عظيم ؟!!!..
وهل يستطيع أحد أن يتصوَّر سعة هذه السماء؟ أم تراه عاجزاً عن أن يدرك لها نهاية أو حدّاً؟
فانظر أيها الإنسان إلى السماء متأمِّلاً مفكِّراً لذلك قال تعالى: { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}.
= وقد ذُكر مناسبة في سبب لطافة هذا الاسم مع ذكر ثمود الذين لم يُذكر قوم غيرهم في هذه السورة ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أن الله سبحانه وتعالى       
قد بيّن لثمود الهدى وصاروا يرونه رأي العين ولكنهم ضلّوا وتركوا الهدى بعد أن رأوه ، فناسب    أن تُذكر الشمس وضحاها تشبيهاً بالهدى الذي حصل لهؤلاء القوم ولكنهم لم يؤمنوا بالله سبحانه وتعالى .
فذكر في بقية السورة نموذجا لمن لم يزكّوا أنفسهم وهم قوم ثمود الذين كانت عندهم نِعَم الله وقامت عليهم حُجة الله ومع ذلك تركوا أنفسهم على ما هي عليها وأتبعوا أنفسهم هواها قال الله : ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)) لم تكذّب بأي سبب إلا لأجل الطغيان .
وفي ذكر تكذيبهم تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه إذ كذبت قبل قريش ثمود وغيرها من الأمم كأصحاب مدين وقوم لوط وفرعون .

نفعنا الله بكتابه العظيم .. وجعله شاهدا لنا لا علينا .

هناك تعليق واحد: