الأربعاء، 28 مايو 2014

تأملات في سورة المطففين


الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على سيد المرسلين .. 
هذه تأملات في سورة المطففين ..
-----------------------------------

= اختلف العلماء في كون السورة مكية أو مدنية أو نزلت بين مكة والمدينة ولو كانت
مكية لكان أقوى في مقصود المقال ، ولو كانت مدنية فالأمر كما هو ولكن الذى رجحه
ابن كثير مدنية السورة وهذا ما رجحه ابن عباس "رضى الله عنه" حين قال : 
( لما قدم "صلى الله عليه وسلم" المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله
" ويل للمطففين " فأحسنوا الكيل ) هذا ما رجحه من المعاصرين ابن عاشور (ا.ھ)

= قال المهايمي : سميت بالمطففين دلالة على أن من أخل بأدنى حقوق الخلق استحق أعظم
ويل من الحق .
حيث قال عز وجل:       
( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)[المطففين:1-3].
فإذا كان من أخل بحقوق الخلق عوقب بالويل الذي هو أعظم العذاب من الله سبحانه وتعالى،
فكيف بمن أخل بأعظم حقوق الله على العباد من الإيمان به وبآياته ورسله؟!.

= تتألّف من أربعة أقسام :
يبدأ الأول بإعلان الحرب على المطففين .
ثم يتلوه القسم الثاني فيذكر مآلَ الفجار .
ويليه القسم الثالثُ يتحدث عن مآلِ الأبرار .
وأما القسم الرابعُ والأخيرُ فإنَّه يذكر ما كان عليه الفجار من استهزاءٍ بالأبرار، وكيف
أن الأبرار في الآخرة يسخرون من الفجار كما كانوا منهم يسخرون: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ
مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.

= البداية موعظة إيمانية اقتصادية قوية { ويلٌ للمطففين } ..
الويل لمن يخرب علينا اقتصاد سوقنا.

يقول أحد العلماء : 
( وهذا يشمل سائر الأنواع الأخرى كتطفيف الأجير في العمل وإسرافه فيما يطلب من أُجرة
والعكس وهو مطالبة الأجير ببذل مجهوده وعدم توفيته أُجرته وكبخس الأثمان عند
الشراء ورفعها عند البيع، فقانون الإسلام في هذا ونحوه هو قوله تعالى:
{ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }[البقرة : 279] ،
لم يفرق في المعاملات المالية بين الناس لأنه قانون يقوم على العدل وإعطاء كل ذي حق
حقه ولو كان حقيراً لا قيمة له في نظر بعض الناس ). (ا.ھ)

= { ويلٌ للمطففين } إنه تطبيق مفهوم تدويل آيات القرآن ، أي نقل المفهوم التدبري
من مخاطبة الفرد إلى مخاطبة الدولة ، ومن القرآن المكي و { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً }
[المزّمِّل 1: 2] كبناء فرد

إلى :{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ }[المطففين 1: 2] إلى بناء الدولة والمجتمع
والآية تقول : ( الناس ) أي جميع مواطني الدولة.
وثمَّة فرق كبير بين من يستمع إلى الآية لينزلها على نفسه فيدبر بها شؤون نفسه،
وبين من يستمع إلى الآية فيدبر بها شؤون دولته ومجتمعه.

= كَثُر في القرآن الكريم الأمرُ بالوفاء والنهي عن التطفيف، قال الله تعالى : 
( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا )[الأنعام: 152]  .
وقال تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[الإسراء: 35] .
وقال تعالى: ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ
وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)[الرحمن: 7- 9].

وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمته من هذه الجريمة، وبيّن أنها سببُ القحط والبلاء،
 فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ
بالله أن تدركوهنّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلِنُوا بها، إلا فشا فيهم الطاعونُ
والأوجاعُ التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مضوا، ولم يَنْقصوا المكيالَ والميزانَ
إلا أُخِذُوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يَمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا
القطرَ من السماء، ولولا البهائم لم يُمْطَروا، ولم يَنقضُوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله
عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا
مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم».

= المطففون على أصناف فمنهم:

ـ زوج يريد من الزوجة أن تعطيه حقه كاملاً وهو يبخسها حقها.
ـ صاحب يريد من صاحبه أن يكون له مثل العسل، لكنه يعامل صاحبه بما هو مر كالحنظل .
ـ موظف يطلب الراتب كاملاً، لكنه لا يعطي الوظيفة حقها دواما وعملا.
ـ مدرس أو معلم يريد من التلاميذ أن يحترموه ، وهو لا يلين لهم، ولا يعطي الدرس حقَّه.
ـ رجل استأجر أجيراً، فاستوفى الحق منه تاماً لكنه لم يعطه الأجرة كاملة .

كل هؤلاء مطففون ؛ لأنهم يستوفون حقوقهم كاملة ، ولا يعطون الحق الذي عليهم كاملاً.
فماذا ينتظرهم يوم القيامة؟ انه الوعيد الشديد (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ *
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
إن الإنسان الذي يطلب حقه كاملاً، ويعطي الحق الذي عليه ناقصاً إنسان جائر ؛
لأن هذا خلاف العدل، والله تعالى لا يحب الجائرين، انه يحب المقسطين العادلين.

قال أهل العلم: إن هذه الآية عامة في جميع الحقوق التي بين العباد ،
وإنما ذكر الله الكيل والوزن لأنه معروف، فكل الباعة الذين يبيعون ويشترون يعرفون
الكيل والوزن. 

= ( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ ) ولم يقل : الذين إذا اكتالوا من الناس، فكلمة: (على ) 
قدرت بـ (من) للإشارة إلى ما في عملهم المنكر من الاستعلاء والقهر، وبيان شأن الظالم
المتحامل المتسلط الذي لا يستبرئ لدينه ولذمته.
ولو قال ( اكتالوا منهم ) ليس فيها تسلط وإنما شيء طبيعي، بيع وشراء طبيعي .
لما تكون الحالة طبيعية ليس فيها بخس وليست من باب التطفيف .

= ( وإذا كالوهم ) لم يقل كالوا لهم لأن اللام تفيد الاستحقاق ، ما قال كالوه لهم لأنهم
لم يعطوهم حقهم لأن اللام تفيد الاستحقاق، كالوهم يعني لم يعطوهم حقهم فجاء بـ ( على ) 
للدلالة على التسلط ولم يقل
( كالوا لهم ) لأنهم لم يعطوهم حقهم فحذف اللام الدالة على الاستحقاق، تعبير عجيب.
( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) في الحالتين هو تسلط.
( كالوهم ) معناها أنهم لا يراعون الحقوق مطلقاً لا في الأخذ ولا في العطاء لهذا قال ويل لهم.

= ( ألا يظن أولئك ) اسم الإشارة الدالة على التبعيد
( أُولَئِكَ ) أي: البعداء الذين هم بعيدون؛ تحقيراً لهم. وقوله: ( لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) فيه وصف
يوم القيامة بالعظمة أيضاً. 
وقوله: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) هذا يدل على استعظام ما استسصغروه ، 
يعني : هم يستصغرون هذا اليوم لكنه عظيم. 
وقوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) فعنوان رب العالمين المالكية والتربية، ل
أنه هو الذي يملكهم وهو الذي يربيهم, الدال على أنه لا يفوته ظالم قوي،
ولا يترك حق مظلوم ضعيف، واقتضت حكمته ألا يهمل مثقال ذرة من خير أو شر.
وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه .

= ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ) وسجين على وزن فعيل من السجن وهو الحبس والتضييق؛
لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، الأرض السابعة السفلى ، فهو بمعنى فاعل في الأصل،
أو بمعنى مفعول،
أي: مسجون لما ذكر في مكان مظلم. وقيل: سجين اسم مكان، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده .

= قوله تعالى : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ) سؤالٌ لتفخيم الشأن، أي أنه أمرٌ عظيمٌ، وسجينٌ مقيم،
وعذابٌ أليم، وقوله - تعالى -: كِتَابٌ مَرْقُومٌ ليس جوابًا للسؤال الذي قبله، وإنما هو متعلق
بما قبل السؤال، متعلق بقوله تعالى :
( كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ والمعنى: إن كتاب الفجار كتابٌ مرقوم ) ،
أي مكتوبٌ، مفروغٌ منه، فلا يُزاد فيه ولا يُنقص منه، وهذا الكتابُ في سجين .

= يكشف ربّ العزّة - سبحانه - عن العلّة الحقيقية التي جعلتهم يكذبون بيوم الدين،
ويكذّبون بكلام ربّ العالمين، فيقول: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يعني أنّهم
أَسْرَفُوا على أنفسهم حتى أحاطت بهم خطيئتُهم، وغطّت قلوبهم، فأصبحوا لا يَفْقَهون حديثًا،
ولا يُنكرون منكرًا، ولا يَعْرِفُون معروفًا، وهذه النتيجةُ الحتميةُ للذنوب، إذا لم يُقلِع الإنسانُ
عنها. وتسبق هذه النتيجة مقدّمات تدلّ عليها، إنْ لم يتدارك الإنسانُ نفَسه بتوبةٍ نصوح.

ومن هذه المقدمات:

1- حرمان العلم، ولذا لما جلس الإمام الشافعي أمام أستاذه الإمامِ مالكٍ - رضي الله عنهما - :
قال له مالكٌ : إني أرى اللهَ قذفَ في قلبك نورًا، فلا تُطْفِئْه بظلمةِ المعاصي .
وقال الشافعيّ رضي الله عنه : شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى تركِ المعاصي
وأخبرني بأنّ العلمَ نورٌ .. ونورُ الله لا يُهْدَى لعاصي .

2- حرمان الرزق، اقرءوا إن شئتم: ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا
مُصْبِحِينَ (17) وَلاَ يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ )
[القلم: 17- 33].

3- حرمان الطّاعة، ولو لم يكنْ للذنب من مضرّة غير أنّه ضيّع وقتًا كان يُمكنُ أن
يستغلّ في الطاعة، لكان ذلك كافيًا في الزجر عن المعاصي. ومنها: أنّ الذنوب يجرّ بعضُها
بعضًا، فهي كالعِقْدِ المنظوم، إذا انقطعَ سِلْكُه اتفرط كلّه، ولذلك قيل: مِنْ عُقوبةِ السّيئةِ
السيئةُ بعدَها، ومن ثوابِ الحسنةِ الحسنةُ بعدها.

4- تعسير الأمور، فلا يسلك العاصي طريقًا إلا عُسِّر عليه، ولا يأتي بابًا إلا أُغلق دونه،
وذلك كما أنّ الطاعة تُيسّر الأمور . 
قال تعالى :( وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا )[الطلاق: 4]، فمن لم يتق الله جعل له من أمره عُسْرًا.

5- وحشةٌ يجدها العاصي في قلبه من الله، ومِن الناس، ومِن الأهلِ والأقاربِ، بل يجدها مِنْ نفسِه،
 فلا يجدُ أُنسًا أبدًا. فهذه المضارّ كلها مقدّماتٌ لهذا الخطر العظيم الران، فإن تدارك اللهُ العبدَ
برحمته تاب عليه، وإلا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: 
( إن العبدَ إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه،
وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكره الله في كتابه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ
مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )[حسن: رواه الترمذي (3334/105/5)، وابن ماجه (4244/1418/2)].
قال العلماء :
هذه النكتةُ السوداء حقيقةٌ لا مجاز، واستدلّوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: 
( نزل الحجرُ الأسودُ من الجنّة، وكان أشدّ بياضًا من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم )[صحيح: رواه الترمذي (878/182/2). ].
والسّواد الذي أصابَ الحجر سوادٌ حقيقيٌّ محسوسٌ، فإذا كان هذا أثر الذنوب في حجرٍ، فكيف
بهذه المضغة القلب؟!
نسأل الله تعالى أن يبيضّ قلوبنا ووجوهنا.

= قوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)
يعني : أنهم لما حَجَبَتِ المعاصي قلوبَهم عن رُؤْيةِ آياتِ الله في الدنيا، عُوقبُوا، فحُجِبُوا
عن رُؤْيته سبحانه في الآخرة : ( جَزَاءً وِفَاقًا )[النبأ: 26]، ( وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ )[فصلت: 46].
وقد استدل الإمامان مالكٌ والشافعيُّ - رحمهما الله - على رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة،
بِحَجْبِ الكافرين عن رؤيته، فقالا: لما حَجَبَ عن رؤيته أعداءَه، كان لابدّ أن يُكْرِمَ برؤيته
أولياءه، حتى قال الشافعي - رحمه الله -: لو لم يعتقدْ محمدُ بنُ إدريس أنه يرى ربّه في الآخرة
ما عبده.

والإيمانُ بالرؤية مِنْ عقيدة أهل السنة، ولذا قال الإمامُ الطحاويّ - رحمه الله - في ذكر بيان
عقيدة أهل السنة والجماعة، قال: «والرؤيةُ حقٌّ لأهلِ الجنة بغير إحاطةٍ ولا كيفيةٍ، كما
نطق به كتابُ ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]
قال : وقد روى أحاديثَ الرؤية نحو ثلاثين صحابيًا، ومَنْ أحاط بها معرفةً يقطعُ بأنّ الرسولَ
- صلى الله عليه وسلم - قالها .

= ألم الحجاب أن يتحسر أهل النار حينما يكونون من المحجوبين عن الله، ولا أمل عندهم
أن يروا الله سبحانه وتعالى، فاجتمع لهم ألم الحجاب وألم العذاب أي: عذاب النار. 

يقول : فكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين وهما: ألم الحجاب
وألم العذاب، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم: نعيم الخلد والنظر, ونعيم الأكل والشرب
والتمتع بما في الجنة .

= ( ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)[المطففين:17].
يقال لهم هذا زيادة في التنكيل والتوبيخ، فإن أشد شيء على الإنسان إذا أصابه مكروه
أن يزجر عن شيء وهو يتألم له؛ لأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها،
وأسباب التخطي عنه كانت في متناوله فأغفلها ، فلذلك من أنواع العذاب المعنوي أيضاً
على نفوس الكفار أن يبكتوا ويوبخوا ويعنفوا .

= قوله تعالى في سورة الانفطار : (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)[الانفطار:13-14]:
فهذه عامة لا ينبغي تخصيصها بالنعيم في البرزخ ولا بالنعيم في الجنة, بل هي في الدور الثلاثة:
في الدنيا, وفي البرزخ، وفي الجنة. ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول:
ما يصنع أعدائي بي، جنتي في صدري, فأينما رحت فهي معي. يقصد جنة العلم ومحبة الله
عز وجل ومعرفته.

= أعظم نعيم في الدنيا هو أن يعمر القلب بمحبة الله، وأعظم نعيم في الآخرة إذا قوبل المحبوب
أن يرفع الحجب التي كانت في الدنيا بينه وبينه، كما قال النبي عليه السلام: ( حجابه النور,
 لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) 
ففي الآخرة يخلق المؤمن ويخلق أهل الجنة خلقاً بحيث يتحملون رؤية الله تبارك وتعالى

وفي حديث الرؤية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فو الله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من
النظر إلى وجهه) ، أما في الدنيا فلا يمكن لأحد أن يرى الله: ( قَالَ لَنْ تَرَانِي ) .

= (( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ )) أي: بهجته ورونقه كما يرى على وجوه المترفين ماؤه
وحسنه ، فيها الإشارة إلى أن نضره النعيم إنما هي أثر من آثار رؤية الله تبارك وتعالى,
 كما ذكر جماعة من المفسرين .
ولذلك هذه الآيات مما استدل به على رؤية الله تبارك وتعالى لأهل الجنة .

= قوله - تعالى -: ( يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ) 
الرحيق من أسماء خمر الجنة وهو مختوم بالمسك.
قال العلماء:
إما أن يكون المراد بقوله: «ختامه مسك»: يعني أن القارورة قد خُتمت في أعلاها بخاتم
المسك، دليلاً على أنها لم تُفْتَحْ من قبل، ولم تمسّها أيدٍ، فإذا كان هذا الختام مِسْكًا،
فكيف بالمشروب الداخليّ!

وإما أَنْ يُراد بقوله - تعالى -: (خِتَامُهُ مِسْكٌ ختامُ الشراب) وهو الفَضْلةُ التي يتركها الشاربُ
في قعرِ الكأس، فإذا كانت هذه الفضلةُ مسكًا، فكيف بأعلاها!.

= في الشرع هناك تنافس مأمور به، وهناك تنافس منهي عنه، أما المأمور به فهو في هذه
الآية: (( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )) وفي قوله تعالى: ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ )[الصافات:61].
أما التنافس المنهي عنه ففي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:

( ولا تنافسوا ) يعني: في الدنيا؛ ولذلك قالوا: من ينافسك في الدنيا فادفعها في نحره.
أي: لا تنافس في الدنيا، وإنما التنافس الذي ينبغي أن يكون في ابتغاء رضوان الله تبارك
وتعالى، وهو الذي قيل فيه: ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ )[آل عمران:133]

وقيل فيه: ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ )[الذاريات:50] وقيل فيه: ( أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)[المؤمنون:61]
فالمسابقة والمنافسة إنما تكون في أعمال الآخرة؛ لأن نعيمها عظيم كبير دائم، أما نعيم في
الدنيا فهو نعيم مكدر سريع الفناء, إن بقيت أنت له لم يبق لك، وإن بقي لك لم تبق، وكل
ما له نهاية فهو قليل.

= (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) المطففين) ما دلالة (بها)؟ لم يقل يشرب منها ؟.
وردت في سورة الإنسان (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
 يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)) (يشرب بها) 

فيها احتمالين أو أكثر من دلالة:
يشرب بها معناها يرتوي بها يشرب إلى درجة الارتواء لأن الشرب قد يكون أقل من الارتواء
 يؤتى بقدح يشرب منه لكن ليس إلى درجة الارتواء قد يرتوي وقد يكون دون الارتواء
(شرب منه) ليس بالضرورة ارتوى هذه الدلالة الأولى .

شرب به بمعنى ارتوى لغة وعندنا شواهد شعرية ( شربنا بماء البحر ثم ترفّعت ) 
فهي ليست مسألة قرآنية وشرب به يضمّن معنى ارتوى لغة. شرب منه ليس بالضرورة ارتواء،
هذا أمر.

شرب به بمعنى موجود في المكان نفسه: شربت بالعين، سكنت بالبلد أي أقمت بالبلد
لأن الباء قد تكون للظرفية. إذن شرب بالعين معناها هو كان موجوداً بالعين وشرب شرب
منها يعني شرب منها لكن ليس بالضرورة أن يكون في العين. شربت من العين ليس بالضرورة
أن تكون في العين أما شربت بالعين يكون قطعاً موجود ومقيم فيها  .

إذن اللذة تكون بشيئين: 
بالمنظر وبالارتواء.

ما الفرق بين يشرب بها ويشرب منها؟ المعنى اللغوي واضح أن شرب بها فيها
ارتواء وفيها الوجود في المكان حين الشرب فتكون لذة الشرب ولذة النظر وشرب بها 
هي الأعلى.

= (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) المطففين) ثم قال (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ
مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)) 
وصفهم بالجملة الإسمية ولم يقل الذين أجرموا. حوّل المؤمنين إلى صورة إسمية فما
دلالة هذا الاختلاف ؟.

أولاً سماهم مجرمين ( أجرموا ) لأنهم اعتدوا على الآخرين. والإجرام هو الاعتداء
على الآخرين أن يفعل شيئاً مخالفاً للقانون فهم اعتدوا على الآخرين أي أجرموا بحقهم
بالسخرية منهم ثم سماهم كفار لأنه ليس كل من يسخر من شخص هو كافر فالإجرام سلوك
والكفر حكم.

فهؤلاء الذين أجرموا هم كفار وليسوا من المسلمين فذكر أول مرة سلوكهم وأعطاهم
حق الإجرام لسلوكهم ثم ذكر أن هؤلاء من الكفار ليس من المسلمين من يسخر بعضهم
من بعض بدليل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ (11) [الحجرات]  . 

هؤلاء من الكفار إذن هو بيّن الحكم وفي البداية بيّن الفعل وإجرامهم واعتداؤهم على الآخرين.
ثم ذكر أن هؤلاء من الكفار لذا قال ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) إذن بيّن سلوكاً
ثم بين حكماً، حكم لهؤلاء بهذا السلوك وغيره لأن هذا السلوك وحده ليس كفراً.

إذا ضحك شخص من شخص فهذا ليس كفراً لكن هؤلاء بالذات كفار كانوا يضحكون من الذين
آمنوا وليس من شخص واحد. يجوز أن يكون المسلم مجرماً لأن الإجرام ارتكاب أخطاء
في حقوق الآخرين. إذن هذا الأمر الأول سماه إجرام لأنهم أجرموا بحقهم ثم قال أن هؤلاء
 من الكفار ومصيرهم إلى جهنم فقال (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ) لم يقل الذين آمنوا من
الذين أجرموا يبقى قسم من الكفار يضحك على آخرين لكنه جمع وشمل الكل هؤلاء وغيرهم
ممن يفعل فعلهم فصار أعم ليس فقط هؤلاء لكن كل الآخرين فصار أعمّ ودخل هؤلاء فيهم.

= قال تعالى -: ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ: 26]،
قال العلماء:
بيْنَ أهل الجنةَ وأهلِ النار طاقات، متى شاءوا أن يفتحوها فتحوها، فيسخرون منهم كما
كانوا منهم يسخرون .


= (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) يعني: هل جُوزِي الكفّار على ما كانوا به يستهزئون؟
 نَعَمَ قد جُوزوا أوْفَر الجزاء وأتمّه، 

وهذه الآيات كقوله - تعالى -: ( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا
فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا
فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ 
تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون: 106- 111].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق