الأربعاء، 28 مايو 2014

تأملات في سورة الانفطار


الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله ..
هذه تأملات في سورة الانفطار ..
--------------------------------- 

= ولا يُعرف لها اسم غير هذا، فالبخاري -رحمه الله- في صحيحه 
قال: «سورة إذا السماء انفطرت» بأول آية من آياتها.
وبعضهم يقول: 
سورة الانفطار، وهناك من قال: سورة المنفطرة .
وعلى كل هذا الاسم واشتقاقاته، هو الذي عُرفت به هذه السورة ولم تُعرف باسم آخر .
هي سورة مكية بالإجماع، لم يقع فيها خلاف ..
ورد في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
﴿ من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت،
 وإذا السماء انشقت ﴾ فأمر القيامة عظيم, وخطرها جسيم .

وقال لمعاذ: «اقرأ بهم بـ ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾
و ﴿ وَالضُّحَى ﴿1﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾» .
وفي رواية: «﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾»، فذكر الانفطار، وهذا موجود في سنن النسائي،
والحديث أصله في الصحيحين.
ïðïðïðïðïðïð
= زادت سورة الانفطار عن التكوير في عتاب ابن آدم ومحاسبته وتبكيته على
تفريطه في الاستعداد لذلك اليوم المهول، 
فقال الله -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ 
فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾.

= تناسب فاتحة سورة الانفطار مع خاتمتها من أولها لآخرها في الساعة،
 أولها ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
وفي آخرها : ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾  
في أولها وآخرها عن أحداث الساعة ..
ولفت أنظارنا سيد قطب -رحمه الله- إلى رابط عجيب جدًّا، فقال: 
"أولها: هولٌ وحراكٌ واضطرابٌ، وآخرها: صمتٌ ومهابةٌ وسكونٌ، وبينهما لومٌ وعتابٌ".

= الانفطار يقول العلماء :
هو أول الانشقاق، ينفطر الشيء، ثم ما يزال يزداد حتى يتضح الانشقاق،
ولذلك جاء في هذه السورة ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾ .
وجاء في سورة الانشقاق: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1] .
وجاء في سورة التكوير: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾[التكوير: 11].

فالذي يظهر - والله أعلم- أن ترتيب هذه الآيات كالتالي : انفطار، فانشقاق، فكشط ..
والكشط : هو السلخ والذهاب
أو الطي، كما قال الله -عز وجل-: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾[الأنبياء: 104].
لماذا بُدِئ بالسماء ؟
لأن السماء في نظرنا الآن هي أكبر المخلوقات، فنحن
لا نرى من مخلوقات الله شيئًا أعظم من هذه السماء .

ïðïðïðïðïðïð

= ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾، انتقل من عالم علويٍّ إلى عالمٍ علويٍّ آخر ولكنه أدنى منه،
وهو الكواكب، والمقصود بها نجوم السماء.

﴿ انتَثَرَتْ ﴾ تساقطت، وهذا ما جاء في سورة التكوير،
قال : ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴾[التكوير 1، 2].

قلنا ﴿ انكدرت﴾ يمكن أن تكون بمعنى .
﴿ انكدرت﴾ : تساقطت وانتثرت، وتفسرها هذه الآية.

وانكدرت: من الكدرة، أظلمت وانطفأت ..
وهي إذا تساقطت لا شك أنها سينتج من ذلك ويلزم
منه أنها ستنطفئ.

= ﴿ وإذا البحار فجرت﴾ .
يقول الإمام البقاعي :
"أي: تفجيرًا كثيرًا بِزوال ما بينها من البرازخ الحائلة بفيضها، وخروج مائِها
عن حدوده، فاختلط بعضها ببعض من ملحها وعذبِها فصارت بحرًا واحدًا،
فصارت الأرضُ كلُّها ماءً، ولا سماء ولا أرض، فأين المفرّ؟!".

= وهنا تقفز السورة قفزة كما فعلت سورة التكوير، إذ يلي هذه الأحداث لحظة
الصعق والفناء التام، بيْد أنَّ السورة انتقلت بالقارئ إلى لحظة البعث بقوله تعالى :
﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾[الانفطار: 4].

والعلَّة في ذلك هي ذات العلَّة التي كانت في سورة التَّكوير، وهي أنَّ المولى - سبحانه -
يَحكي لنا مشاهد القيامة التي سوف يراها شرار النَّاس، أمَّا لحظة الصعق هذه
فإنَّها خاتمة هذا اليوم، آخر لحظات الدنيا، وبعدها يقبضها الله تعالى بيمينه؛
كما في الحديث عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يقبض الله الأرض ويطوي السَّماوات 
بيمينِه، ثمَّ يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)) .

ïðïðïðïðïðïð

= ﴿ علمت نفس ما قدمت وأخرت﴾ .
جواب القسم ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً
وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ﴾ .
﴿ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾، هل المقصود ما قدمته في أول
عمرها وما أخرته في آخر عمرها؟ يعني كل ذلك في حياتها
أو المقصود: علمت نفس ما قدمت في حياتها، وما أخرت بعد مماتها مما يكون من عملها؟

لأن عمل الإنسان قسمان:

- قسم يكون في حياة الإنسان.

- وقسم يكون بعد موته، مثل الصدقة الجارية، والعلم
الذي يُنتفع به. فهذا مما أخره الإنسان بعد موته.

فالآية منتظمة لهذا، ومنتظمة لذاك .
والمقصود منها: علم الإنسان بعمله كله، أوله وآخره ،
ما كان في حياته وما كان بعد موته.
وهذه الآية نأخذ منها: أن الإنسان ينبغي كما يقدم
عملًا صالحًا أن يؤخر أيضًا عملًا صالحًا، كما قال النبي
- صلى الله عليه وسلم: « إذا مات ابن آدم انقطع عمله
إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .

= يقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ )
يُعاتب المولى - سبحانه - الإنسان لتمنِّيه على ربِّه دون أن يكلِّل تلك الأماني بالعمَل،
فكم من أمنيَّة غرَّت صاحبها فظلَّ متمنِّيًا أن يطول به الأمل حتَّى يدرك التَّوبة والإنابة إلى الله،
دون الإسراع في الطَّاعات، ففضَّل العمل لدار الدُّنيا ونسِي العمل لدار الآخرة؛ يقول سبحانه:
﴿ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا
وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾[الأعراف: 51] .
نعم الدنيا غرتهم، وكذا غرَّتْهم الأماني، وكذا يكون غرور الشيطان لابن آدم؛
يقول سبحانه:
﴿ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾[الحديد: 14]، 
ويقول الله سبحانه:﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾[فاطر: 5].

﴿ غرك بربك ﴾ ما قال: ﴿ ما غرك بالله ﴾ ما جاء بلفظ الألوهية، وإنما جاء بلفظ الربوبية
ليُبيِّن كيف كان الرب رحيمًا، عطوفًا، كريمًا مع هذا الإنسان، لئلا يبقى له حجة على الله.
ثم عطف عليه قوله: ﴿ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ وصفه بالكرم؛
لأنه قد أعطى ابن آدم عطاءً واسعًا وكثيرًا ومجزيًا فلم
يقل الرحيم، ولا يمكن للإنسان أن يكفر أو يُنكر هذه النعمة، ولكن الإنسان بطبعه الكفور الظلوم يجحد هذه النعم، ويستعمل ما آتاه الله من نعمه في معصيته، والعياذ بالله.

ولذلك هذه جاءت ﴿ ربك" و"الكريم﴾ لإقامة الحجة على الإنسان وإلجامه، كيف ربك أكرمك؟
هل قصَّر عليك؟ هل لم يُرسل لك الرسل؟ ولم يعطك الوسائل التي تتعرف بها على الحق
من الباطل؟ هل هناك شيء تحتجّ به على الله؟!!.

= قال الإمام حسن رضي الله عنه :
( المغرور في الدنيا مسكين وفي الآخرة مغبون لأنه باع الأفضل بالأدنى ولا تعجب
بنفسك فربما اغتررت بمالك وصحة جسدك ..........
.وربما توهمت أنك تدعو الله وأنت تدعو سواه) .

ïðïðïðïðïðïð

= ﴿ الذي خلقك فسواك فعدلك ﴾ إنَّ الذي يقطع على الإنسان اغتراره بالدنيا وانهماكه
 فيها، ويقطع عليه كثرة الأماني ويجعله يعتدل على الصراط المستقيم - هو تذكُّره بأنَّه
 مخلوق خلَقه الله تعالى وأحْسنَ في خلقه، ومنحَه من النعم والهِبات ما يقدر به على
تنفيذ ما كلَّفه الله به من الطَّاعات، فكلٌّ ميسَّر لِما خلق له .

= ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ ؛ أي جعلك في صورة هو شاءها، هذه الصورة هي
أجمل الصور وأحسنها، وليس لك من أمر صورتك شيء، يعني لستَ أنتَ الذي تصنع
هذه الصورة ..
متى يدرك أولئك الساخرون بخلقة فلان وفلان أن صورته ليست من صنعه ،
وأن سخريته هذه تطال السخرية بمن صوره .. فليحذر !!..

= ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، هنا يعود المقام إلى تذكير العبد بأنه تحت رقابة الله،
وأن الله ما خلقه عبثًا، ولا جعله هملًا، ولم يتركه سدًى، بل خلقه في حالة تدل
على أنه متابَع ومراقَب ليستعدَّ للقاء آخر يُجازَى على كل شيء، ويُحاسَب على كلِّ 
صغيرة وكبيرة.
فقال: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، وأكَّد هذا الأمر لأنه يتحدث مع من ينكرونه، وهم الكفار
-كفار مكة-، قال:  ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾ .
لاحظ المؤكدات في هذه الآية ثلاثة :

- الأولى: "إنَّ" مؤكدة.

- ﴿ لَحَافِظِينَ ﴾: اللام الدَّالة على التوكيد.

- وأيضًا الجملة الاسمية وهي أيضًا مما يُؤكَّدُ به اللام.

والحفظ في هذه الآية أو في هذه السورة المقصود به  :
حفظ الأعمال وتدوينها، وليس هو المقصود بقول الله
-عز وجل- في سورة الطارق ( إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾

ïðïðïðïðïðïð

= ( إن الأبرار لفي نعيم ) ما قال : "لفي نعيم في الجنة أو في الآخرة"، فدلَّ ذلك على
أن البارَّ يُدرك من النعيم في الدنيا، وفي قبره، وفي الآخرة، كل واحد من هذه الدور
الثلاثة بحسبها، وهذا ما أثبته ابن القيم -رحمه الله- في تعليقه
على هذه الآية، بأنها جاءت مطلقة.
وهذا يلاحظه الأبرار، فإنهم يُدركون من لذة الطاعة والإيمان، وعمل البر وفعل الخير،
ما تنشرح به صدورهم، وتأنس به نفوسهم، ويدركون به لذَّة عظيمة من لذائذ الحياة  

= ( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾
الفجار هم الذين فجروا من جهتين:

- من جهة فجور القلب بالتكذيب.

- وفجور الجوارح بالعاصي ، أي خرجوا عن الطاعة .

= ﴿ وما هم عنها بغائبين ﴾ أي هذه النار التي يصلونها وهم مستمرون في أن يصلوها
لأنه فيها المضارع المستمر أكّدها ﴿ وما هم عنها بغائبين﴾ أنهم لا يغيبون عنها لا ينجون 
منها لا يخرجون منها هم دائماً في حضور في هذا المكان
﴿ وما هم عنها بغائبين ﴾ .

= ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ)[الانفطار:17] تعظيماً لهذا اليوم,
وأي شيء هو في شدته وهوله أشد من ذلك اليوم؟
﴿ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار:18] قرر ذلك تعظيماً لشأنه, وتهويلاً لأمره .

= ثم أجاب بهذا الجواب الفخم، الرهيب، المهول، الساكن، الذي يملأ النفس عظمة 
وهيبة: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ﴾، ليس هناك نفس - مهما كانت- تملك لنفس
-مهما كانت- شيئًا، إلا أن يأذن الله بشيء من ذلك ويرضاه ،
فلا أحد في ذلك اليوم يتصرف أو يقدم خيرًا، أو يدفع ضرًّا، أو ينصر أحدًا، إلا أن يأذن الله به.

= ثم ختم الله هذه السورة بقوله: ﴿ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾، الأمر كله لله، لا لملك مقرَّب،
ولا لنبي مرسل، ذلك اليوم الرهيب، الذي لا يستطيع أحد أن ينفع أحداً بشيء من الأشياء
ولا يدفع عنه ضراً.
ïðïðïðïðïðïð


هناك تعليقان (2):

  1. بسم الله الرحمن الرحيم..بارك الله فيكم على الشرح ،والتوضيح ،وعلى هذه التأمذلات الرائعة.

    ردحذف
  2. بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا على هذا الشرح اارائع الواضح .

    ردحذف