الثلاثاء، 10 يونيو 2014

تأملات في سورة التكوير



الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله ..
هذه تأملاتنا في سورة التكوير ..
---------------------------------

{إذا الشمس كورت}
هذا يكون يوم القيامة، والتكوير: جمع الشيء بعضه إلى بعض ولفّه كما تكوّر العمامة على الرأس، والشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة في يوم القيامة يكورها الله عز وجل فيلفها جميعاً ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها ، ويلقيها عز وجل في النار عز وجل إغاظة للذين يعبدونها من دون الله.
قال الله تبارك وتعالى : {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} أي تحصبون في جهنم {أنتم لها واردون}[الأنبياء: 98]. ويستثني من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله فإنه
لا يلقى في النار كما قال الله تعالى بعد هذه الآية
{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون}[الأنبياء: 101، 102]

{وإذا النجوم انكدرت} انكدرت يعني تساقطت كما تفسره
الآية الثانية.

{وإذا الكواكب انتثرت}[الانفطار: 2].
فالنجوم يوم القيامة تتناثر وتزول عن أماكنها

{وإذا الجبال سُيرت} هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباءً يوم القيامة وتسيّر .
كما قال الله تعالى: {وسيّرت الجبال فكانت سراباً}[النبأ: 20].
{وإذا العشار عُطلت} العشار جمع عشراء، وهي الناقة الحامل التي تم لحملها عشرة أشهر وهي من أنفس الأموال عند العرب، وتجد صاحبها يرقبها ويلاحظها، ويعتني بها ويأوي إليها ويحف بها في الدنيا، لكن في الآخرة تعطل ولا يلتفت إليها؛ لأن الإنسان في شأن عظيم مزعج ينسيه كل شيء .
كما قال الله تبارك وتعالى: {يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه}[عبس: 34 ـ 37].

^^^^^^^^^^^^^^

{وإذا الوحوش حشرت} الوحوش جمع وحش، والمراد بها جميع الدواب، لقول الله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}[الأنعام: 38].
فستحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس ويُقتص لبعضها من بعض، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء (47)، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت تراباً، وإنما يفعل ذلك سبحانه وتعالى لإظهار عدله بين خلقه .

{وإذا البحار سُجّرت} البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريباً أو أكثر. هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تُسجر، أي توقد ناراً، تشتعل ناراً عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبق فيها ماء؛ لأن بحارها المياه العظيمة تسجّر حتى تكون ناراً .
{وإذا النفوس زوجت} النفوس جمع نفس، والمراد بها الإنسان كله، فتزوّج النفوس يعني يُضم كل صنف إلى صنفه؛ لأن الزوج يراد به الصنف كما قال الله تعالى:
{وكنتم أزواجاً ثلاثة}[الواقعة: 7].
أي أصنافاً ثلاثة وقال تعالى: {وآخر من شكله أزواج}[ص: 58]. أي أصناف .
وقال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم}[الصافات: 22].
أي أصنافهم وأشكالهم فيوم القيامة يضم كل شكل إلى مثله، أهل الخير إلى أهل الخير، وأهل الشر إلى أهل الشر، وهذه الأمة يضم بعضها إلى بعض {وترى كل أمة جاثية} لوحدها
{كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون}[الجاثية 28].
إذاً {وإذا النفوس زوجت} يعني شكّلت وضُم بعضها إلى بعض كل صنف إلى صنفه، كل أمة إلى أمتها .

{وإذا المؤودة سُئلت * بأي ذنب قُتلت} المؤودة هي الأنثى تدفن حية، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله، وعدم تحملهم يعيّر بعضهم بعضاً إذا أتته الأنثى، فإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، ممتلىء هًّما وغمًّا
{ يتوارى من القوم } يعني يختفي منهم { من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب }[النحل 59].
يعني إذا قيل لأحدهم نبشرك أن الله جاء لك بأنثى ـ ببنت ـ اغتم واهتم، وامتلأ من الغم والهم، وصار يفكر هل يبقي هذه الأنثى على هون وذل؟ أو يدسها في التراب ويستريح منها؟ فكان بعضهم هكذا، وبعضهم هكذا. فمنهم من يدفن البنت وهي حية، إما قبل أن تميز أو بعد أن تميز، حتى إن بعضهم كان يحفر الحفرة لبنته فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضتـه عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها ولا يكون في قلبه لها رحمة، وهذا يدلك على أن الجاهلية أمرها سفال، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش، وهؤلاء لا يحنون على أولادهم .
يقول عز وجل: { وإذا المؤودة سئلت} تسأل يوم القيامة
{بأي ذنب قتلت} هل أذنبت ؟ فإذا قال قائل: كيف تُسأل
وهي المظلومة... هي المدفونة، ثم هي قد تدفن وهي لا تميز، ولم يجر عليها قلم التكليف، فكيف تسأل ؟
قيل: إنها تُسأل توبيخاً للذي وأدها، لأنها تُسأل أمامه
فيقال : بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ؟ نظير ذلك لو أن شخصاً اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان إلى الأمير فقال للمظلوم : بأي ذنب ضربك هذا الرجل؟ وهو يعرف أنه معتدىً عليه ليس له ذنب. لكن من أجل التوبيخ للظالم، فالمؤودة تُسأل بأي ذنب قتلت توبيخاً لظالمها وقاتلها ودافنها نسأل الله العافية.

{وإذا الصحف نشرت} الصحف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيها الأعمال.
واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل فإنه يكتب ويسجل بصحائف على يد أمناء كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، يسجل كل شيء تعمله حتى توافى يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} يعني عمله في عنقه {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} مفتوحاً {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء13- 14]، كلامنا الان ونحن نتكلم يكتب، كلام بعضكم مع بعض يكتب، كل كلام يكتب {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .
وقال: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، لأن كل شيء سيكتب عليه، ومن كثُر كلامُه كثُر سقطه، يعني الذي يُكثر الكلام يكثر منه السقط والزلات، فاحفظ لسانك فإن الصحف سوف يكتب فيها كل ما تقول وسوف تنشر لك يوم القيامة.

^^^^^^^^^^^^^^

{وإذا السماء كشطت} السماء فوقنا الان سقف محفوظ قوي شديد.
قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد}[الذاريات: 47]. أي بقوة.
وقال تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً}[النبأ: 12]. أي قوية.
وفي يوم القيامة تكشط يعني تُزال عن مكانها كما يكشط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم يكشطها الله عز وجل ثم يطويها جل وعلا بيمينه كما قال تعالى: {والسموات مطويات بيمينه}[الزمر: 67].
{ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}[الأنبياء: 104].
يعني كما يطوي السجل الكتب، يعني الكاتب إذا فرغ من كتابته طوى الورقة حفظاً لها عن التمزق وعن المحي، فالسماء تكشط يوم القيامة ويبقى الأمر فضاء إلا أن الله تعالى يقول: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}[الحاقة: 17]. يكون بدل السماء التي فوقنا الان يكون الذي فوقنا هو العرش؛ لأن السماء تطوى بيمين الله عز وجل يطويها بيمينه ويهزها وكذلك يقبض الأرض .
 ويقول: «أنا الملك، أين ملوك الأرض»،

{وإذا الجحيم سعرت} الجحيم هي النار.
وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها.
تُسعر : أي توقد.
وما وقودها الذي توقد به ؟
وقودها الذي توقد به قال الله عنه: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}[التحريم: 6].
بدل ما توقد بالحطب يكون الوقود الناس يعني الكفار. والحجارة حجارة من نارٍ عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم .

{وإذا الجنة } الجنة دار المتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {أزلفت} يعني قُرِّبت وزُيِّنت للمؤمنين، وانظر الفرق بين هذا وذاك.
دار الكفار تسعّر، توقد، ودار المؤمنين تزيّن وتقرّب {وإذا الجنة أزلفت} كل هذا يكون يوم القيامة، إذا قرأنا هذه الآيات: {إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت. وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت. وإذا النفوس زوجت. وإذا المؤودة سئلت. بأي ذنب قتلت. وإذا الصحف نشرت. وإذا الشماء كشطت. وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت} هذه اثنتا عشرة جملة إلى الان لم يأت بالجواب. لأن كلها في ضمن الشرط {إذا الشمس كورت} فالجواب لم يأت بعد ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء؟..

قال الله تعالى: {علمت نفس ما أحضرت} أي ما قدمته من خير وشر {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء}[آل عمران: 30]. يعني يكون محضراً أيضاً {تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه}[آل عمران: 30]. فتعلم في ذلك اليوم كل نفس ما أحضرت من خير أو شر، في الدنيا نعلم ما نعمل من خير وشر لكن سرعان ما ننسى. نسينا الشيء الكثير لا من الطاعات ولا من المعاصي، ولكن هذا لن يذهب سدى كما نسيناه؟ بل والله هو باق، فإذا كان يوم القيامة أحضرته أنت بإقرارك على نفسك بأنك عملته، ولهذا قال تعالى: {علمت نفس ما أحضرت} فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الآيات العظيمة وأن يتعظ بما فيها من المواعظ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رأي عين؛ لأن ما أخبر الله به وعلمنا مدلوله فإنه أشد يقيناً عندنا مما شاهدناه بأعيننا أو سمعناه بأذاننا؛ لأن خبر الله لا يكذب، صدق .

^^^^^^^^^^^^^^

{فلا أقسم بالخنس} .
قوله تعالى: {فلا أقسم} قد يظن بعض الناس أن { لا } نافية وليس كذلك، بل هي مثبتة للقسم ويؤتى بها بمثل هذا التركيب للتأكيد. فالمعنى {أقسم بالخنس} والخنس جمع خانسة، وهي النجوم التي تخنس، أي ترجع فبينما تراها في أعلى الأفق إذا بها راجعة إلى آخر الأفق، وذلك والله أعلم لارتفاعها وبُعدها فيكون ما تحتها من النجوم أسرع منها في الجري بحسب رؤية العين .

{الجوار} أصلها (الجواري) بالياء لكن حذفت الياء للتخفيف و{الكنس} هي التي تكنس أي تدخل في مغيبها.
فأقسم الله بهذه النجوم ثم أقسم بالليل والنهار .
فقال : {والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} .
معنى قوله: {عسعس} يعني أقبل.
 وقيل: معناه أدبر، وذلك أن الكلمة {عسعس} في اللغة العربية تصلح لهذا وهذا.
لكن الذي يظهر أن معناها «أقبل» ليوافق أو ليطابق ما بعده من القسم.
وهو قوله: {والصبح إذا تنفس} فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله، وبالنهار حال إقباله.
وإنما أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لعظمها وكونها من آياته الكبرى، فمن يستطيع أن يأتي بالنهار إذا كان الليل، ومن يستطيع أن يأتي بالليل إذا كان النهار، قال الله عز وجل: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون}[القصص:  71- 72].
{ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}[القصص: 73].

فهذه المخلوقات العظيمة يقسم الله بها لعظم المقسم عليه وهو قوله: {إنه لقول رسول كريم} {إنه} أي القرآن .
{لقول رسول كريم} هو جبريل عليه الصلاة والسلام، فإنه رسول الله إلى الرسل بالوحي الذي ينزله عليهم.
ووصفه الله بالكرم لحسن منظره كما قال تعالى في آية أخرى: {ذو مرة فاستوى}[النجم: 6].
{ذو مرة}
قال العلماء المرة: الخلق الحسن والهيئة الجميلة، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفاً بهذا الوصف: {كريم} {ذي قوة عند ذي العرش مكين} {ذي قوة} وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم رآه على صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح قد سدّ الأفق كله من عظمته عليه الصلاة والسلام .
وقوله: {عند ذي العرش} أي عند صاحب العرش وهو الله جل وعلا، والعرش فوق كل شيء، وفوق العرش رب العالمين عز وجل. قال الله تعالى: {رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده}[غافر: 15].
فذو العرش هو الله. وقوله: {مكين} أي ذو مكانة، أي أن جبريل عند الله ذو مكانة وشرف، ولهذا خصه الله بأكبر النعم التي أنعم بها على عباده، وهو الوحي .

{مطاع ثمَّ} أي هناك {أمين} على ما كُلف به.
جبريل هو المطاع فمن الذي يطيعه ؟
قال العلماء: تطيعه الملائكة لأنه ينزل بالأمر من الله فيأمر الملائكة فتطيع، فله إمرة وله طاعة على الملائكة.
ثم الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين ينزل جبريل عليهم بالوحي لهم إمرة وطاعة على المكلفين {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين}. [المائدة: 92].

^^^^^^^^^^^^^^

في هذه الآيات { إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين} أقسم الله عز وجل على أن هذا القرآن قول هذا الرسول الكريم الملكي جبريل عليه الصلاة والسلام، وفي آية أخرى بين الله سبحانه وتعالى وأقسم أن هذا القرآن قول رسول كريم بشري في قوله تعالى: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون. إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر}[الحاقة: 38 ـ 41]. فالرسول هنا في سورة التكوير رسول ملكي أي من الملائكة وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، والرسول هناك رسول بشري وهو محمد عليه الصلاة والسلام، والدليل على هذا واضح. هنا قال: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين} وهذا الوصف لجبريل، لأنه هو الذي عند الله، أما محمد عليه الصلاة والسلام فهو في الأرض. هناك قال: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر} ردًّا لقول الكفار الذين قالوا إن محمداً شاعر {ولا بقول كاهن} فأيهما أعظم قسماً {فلا أقسم بالخنس.
الجوار الكنس. والليل إذا عسعس.
{ والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة } أو
{ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم}، الثاني أعظم، ليس فيه شيء أعمّ منه { بما تبصرون وما لا تبصرون } كل الأشياء إما نبصرها أو لا نبصرها. إذن أقسم الله بكل شيء.

^^^^^^^^^^^^^^

وهنا أقسم بالآيات العلوية {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} هذه آيات علوية أفقية تناسب الرسول الذي أُقسم على أنه قوله وهو جبريل؛ لأن جبريل عند الله.

{وما صاحبكم بمجنون} أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتأمل أنه قال: {وما صاحبكم} فأضافه إليهم ليكون أشد لوماً وتوبيخاً لهم حين ردوا دعوته كأنه قال: ما صاحبكم الذي تعرفونه وأنتم وإياه دائماً، بقي فيهم أربعين سنة في مكة قبل النبوة يعرفونه، ويعرفون صدقه وأمانته، حتى كانوا يطلقون عليه اسم الأمين {وما صاحبكم بمجنون} يعني ليس مجنوناً، بل هو أعقل العقلاء عليه الصلاة والسلام، أكمل الناس عقلاً بلا شك وأسدّهم رأياً.

{ولقد رآه} أي رأى محمد جبريل {بالأفق المبين} الأفق جابن السماء والمبين أي البين الظاهر العالي، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها مرتين: مرة في غار حراء ، ومرة في السماء السابعة لما عُرج به عليه الصلاة والسلام ، وهذه الرؤية هي التي في غار حراء، لأنه يقول { رآه بالأفق } إذن محمد في الأرض

{وما هو} يعني ما محمد صلى الله عليه وسلّم {على الغيب} يعني على الوحي الذي جاءه من عند الله { بضنين } بالضاد أي ببخيل، فهو عليه الصلاة والسلام ليس بمتهم في الوحي ولا باخل به، بل هو أشد الناس بذلاً لما أوحي إليه، يعلم الناس في كل مناسبة، وهو أبعد الناس عن التهمة لكمال صدقه عليه الصلاة والسلام، وفي قراءة { بظنين } بالظاء المشالة، أي: بمتهم، من الظن وهو التهمة.

{وما هو بقول شيطان رجيم} أي ليس القرءان بقول أحد من الشياطين، وهم الكهنة الذين توحي إليهم الشياطين الوحي ويكذبون معه ويخبرون الناس فيظنونهم صادقين.

{فأين تذهبون. إن هو إلا ذكر للعالمين} {إن} هنا بمعنى
( ما ) وهذه قاعدة: «أنه إذا جاءت (إلا) بعد (إن) فهي بمعنى (ما)» أي أنها تكون نافية لأن «إن» تأتي نافية، وتأتي شرطية، وتأتي مخففة من الثقيلة، والذي يبين هذه المعاني هو السياق فإذا جاءت ( إن وبعدها إلا ) فهي نافية، أي ما هو أي القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم ونزل به جبريل على قلبه { إلا ذكر للعالمين }،
ذكر يشمل التذكير والتذكّر، فهو تذكير للعالمين، وتذكر لهم، أي أنهم يتذكرون به ويتعظون به (والمراد بالعالمين) من بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}[الأنبياء: 107].
وقال تعالى: { تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}[الفرقان: 1].
فالمراد بالعالمين هنا من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

{ لمن شاء منكم أن يستقيم } {لمن شاء} هذه الجملة بدل مما قبلها لكنها بإعادة العامل وهو ( إلا ) كانه قال : «إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم» فخص بعد التعميم وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا ينتفع به كما قال تعالى: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}[ ق: 37].
فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن .

للإنسان مشيئة ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، ولهذا قال: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} ما نشاء شيئاً إلا بعد أن يكون الله قد شاءه، فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه. كما قال تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا}[البقرة: 253].
فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا، ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل، ولو شاء الله ما فعلنا ، { رب العالمين } إشارة إلى عموم ربوبية الله، وأن ربوبية الله تعالى عامة .

والحاصل أن هذه السورة سورة عظيمة ، فيها تذكرة وموعظة ينبغي للمؤمن أن يقرأها بتدبر وتمهل، وأن يتعظ بما فيها، كما أن الواجب عليه في جميع سور القرآن وآياته أن يكون كذلك حتى يكون ممن اتعظ بكتاب الله وانتفع به، نسأل الله تعالى أن يعظنا وإياكم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وآياته الكونية إنه على كل شيء قدير .

^^^^^^^^^^^^^^



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق