الأربعاء، 18 يونيو 2014

تأملات في سورة عبس



الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على سيد المرسلين ..
فهذه تأملات في سورة عبس ..
----------------------------------------

b( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ) ..
هذا العابس والمتولي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم 
ومعنى: (عبس) أي: كلح في وجهه، أي: استنكر الشيء في وجهه.
ومعنى: (تولى) أعرض.

والمراد بالأعمى في قوله: (أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى) هو عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم
رضي الله عنه فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وهو في مكة
وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامهم،
ومعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سبباً في إسلام من خلفهم،
وكان طمع النبي صلى الله عليه وسلم فيهم شديداً، فجاء هذا الأعمى يسأل
النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا أنه كان يقول : علمني مما علمك الله،
ويستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه،
وعبس في وجهه رجاءً وطمعاً في إسلام هؤلاء العظماء، وكأنه خاف أن يزدريه
هؤلاء العظماء الشياطين إذا أعطى وجهه لمثل هذا الرجل الأعمى وأعرض عنهم .

b فكان النبي صلى الله عليه وسلم في عبوسه وتوليه يلاحظ هذين الأمرين :
الأمر الأول: الرجاء في إسلام هؤلاء العظماء.
والأمر الثاني: ألا يزدروا النبي صلى الله عليه وسلم في كونه يلتفت إلى هذا الرجل
الأعمى الذي هو محتقرٌ عندهم .
ولا شك أن هذا اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم وليس احتقاراً لابن أم مكتوم ؛
لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهمه إلا أن تنتشر دعوة الحق بين عباد الله
وأن الناس عنده سواء، بل من كان أشد إقبالاً على الإسلام فهو أحب إليه، هذا ما نعتقده
في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

^^^^^^^^^

b (وما يدريك لعله يزكى ...)
( وَمَا يُدْرِيكَ ): أي شيء يؤلمك أن يتزكى هذا الرجل ويقوى إيمانه .
( لَعَلَّهُ ) : أي لعل ابن أم مكتوم .
( يَزَّكَّى ) :أي يتطهر من الذنوب والأخلاق التي لا تليق بأمثاله، فإذا كان هذا هو المرجو
منه فإنه أحق أن يلتفت إليه.

b (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)
أي: يتعظ فتنفعه الموعظة، فإنه رضي الله عنه أرجى من هؤلاء أن يتعظ ويتذكر.

b (أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى)
( أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى ) : أي استغنى بماله لكثرته واستغنى بجاهه لقوته.
b ( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) :أي تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه ..
b ( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ) : أي ليس عليك شيء إذا لم يتزك هذا المستغني؛ لأنه ليس عليك
إلا البلاغ فالله سبحانه وتعالى بين أن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أقرب إلى التزكي من
هؤلاء العظماء .

b (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى) : أي يتعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى 
الله عليه وسلم .

(وَهُوَ يَخْشَى) : أي خاف الله بقلبه .
b (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) : أي تتلهى عنه وتتغافل، لماذا؟
لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون.

^^^^^^^^^

b (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) فمعنى (كلا) أي: لا تفعل مثل هذا .
 ولهذا نقول: إن (كلا) هنا حرف ردع وزجر، أي: لا تفعل مثلما فعلت . 
(إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) أي: إن الآيات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
( تذكرة ) أي: تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه
ويتعظ بها القلب.

b (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) أي: فمن شاء ذكر ما نزل من الموعظة فاتعظ ومن شاء أن يتعظ؛
لقول الله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف:29]
فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان الخيار قدراً، وأما شرعاً فلا .

جعل له الخيار بين أمرين: 
أن يسلم أو يكفر . 
أما شرعاً فلا؛ فإنه (لا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر:7]، وليس الإنسان مخيراً شرعاً
بين الكفر والإيمان، بل هو مأمور بالإيمان، والإيمان مفروض عليه، لكن
من حيث القَدَر هو مخير، وليس كما يزعم بعض الناس أنه مسير مجبر على عمله،
بل هذا قول مبتدع ابتدعه الجبرية من الجهمية وغيرهم، فالإنسان في الحقيقة مخير،
ولذلك إذا وقع الأمر بغير اختيار الإنسان مثل أن يكون مكرهاً فلا عبرة بفعله ..
والمهم أن الله يقول: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) أي: ذكر ما نزل من الوحي فاتعظ به .
يعني: ومن شاء لم يذكره، الموفق من وفقه الله عز وجل.

^^^^^^^^^

b (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ)
أي: إن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الآيات في صحف مكرمة، معظمة عند الله،
 والصحف جمع صحائف، والصحائف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيه القول،
هذه الصحف بأيدي سفرة، والسفرة هم الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة يكتبون،
وسموا سفرة كذلك؛ لأنهم سفراء بين الله وبين الخلق، فجبريل عليه الصلاة والسلام
واسطة بين الله وبين الخلق في النزول بالوحي، والكتبة الذين يكتبون ما يعمل الإنسان
ويبلغونه إلى الله عز وجل، والله تعالى عالم به حين كتابته وقبل كتابته.

(كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (كرام) في أخلاقهم، (كرام) في خلقتهم؛ لأنهم على أحسن خلقة، وعلى أحسن
خلق، ولهذا وصف الله الملائكة بأنهم: ( كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) [الانفطار:11-12]

وأنهم عليهم الصلاة والسلام: ( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ 
لا يَفْتُرُونَ)[الأنبياء:19-20].

b هذه الآيات من سورة عبس فيها تأديب من الله عز وجل للخلق، ألا يكون همهم
هماً شخصياً، بل يكون همهم هماً معنوياً، ألا يفضلوا في الدعوة إلى الله شريفاً لشرفه
ولا عظيماً لعظمته ولا قريباً لقربه، بل يكون الناس عندهم سواء في الدعوة إلى الله،
الفقير والغني، الكبير والصغير، القريب والبعيد.

وفيها أيضاً تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال في أولها:
(عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى) ثلاث آيات لم يخاطب الله فيها النبي صلى الله عليه وسلم؛
لأنها عتاب شديد، فلو وجهت للرسول بالخطاب لكان فيه ما فيه، ولكن جاءت بالغيبة
(عبس) وإلا لكان مقتضى الحال أن يقول: (عبست وتوليت، أن جاءك الأعمى، وما يدريك لعله يزكى) 
ولكنه قال: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم
بهذه الكلمات الغليظة الشديدة؛ ولأجل ألا يقع في مثل ذلك من يقع من هذه الأمة، والله
سبحانه وتعالى وصف كتابه العزيز بأنه بلسانٍ عربي مبين، وهذا من بيانه. وفي الآية أيضاً دليل على جواز أن يلقب الإنسان بوصفه، مثل: الأعمى والأعرج والأعمش، وقد كان العلماء يفعلون هذا، فما أكثر ما يرد عليكم: الأعرج عن أبي هريرة ، والأعمش عن ابن مسعود .

b قال أهل العلم:
واللقب بالعيب إذا كان المقصود به تعيين الشخص فلا بأس به، وأما إذا كان المقصود
به تعيير الشخص فإنه حرام؛ لأن الأول إذا كان المقصود به تبيين الشخص فإنه مما تدعو الحاجة إليه، والثاني إذا كان المقصود به التعيير فإنه لا يقصد به التبيين وإنما يقصد به الشماتة، وقد جاء في الأثر: (لا تظهر الشماتة في أخيك فيعافيه الله ويبتليك) نسأل الله لنا
ولكم الاستقامة والسلامة في الدنيا والآخرة. 

b{قُتِلَ الإِنسَـنُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *
 ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَـنُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا
الاَْرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَـكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَـعاً لَّكُمْ 
وَلاِأنْعَـمِكُمْ}.

{قتل الإنسان} {قتل} قال بعض العلماء : إن معناها لعن، والذي يظهر أن معناها أُهلك؛
لأن القتل يكون به الهلاك وهو أسلوب تستعمله العرب في تقبيح ما كان عليه صاحبه
فيقولون مثلاً: قتل فلان ما أسوأ خلقه، قتل فلان ما أخبثه وما أشبه ذلك.

وقوله تعالى: {قتل الإنسان} قال بعض العلماء: المراد بالإنسان هنا الكافر خاصة، وليس
كل إنسان لقوله فيما بعد {ما أكفره} ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان الجنس، لأن أكثر
بني آدم كفار كما ثبت في الحديث الصحيح: أن الله يقول يقوم القيامة: 
«يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول له الله عز وجل: أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار.
فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين»،

فيكون المراد بالإنسان هنا الجنس ويخرج المؤمن من ذلك بما دلت عليه النصوص 
الأخرى.

{ما أكفره} قال بعض العلماء إن {ما} هنا استفهامية أي: أي شيء أكفره؟ ما الذي حمله
على الكفر؟ وقال بعض العلماء: إن هذا من باب التعجب يعني ما أعظم كفره! وإنما كان
كفر الإنسان عظيماً لأن الله أعطاه عقلاً، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب وأمده
بكل ما يحتاج إلى التصديق، ومع ذلك كفر فيكون كفره عظيماً. والفرق بين القولين أنه
على القول الأول تكون {ما} استفهامية أي: ما الذي أكفره؟ وعلى القول الثاني تكون تعجبية
يعني عجباً له كيف كفر مع أن كل شيء متوفر لديه في بيان الحق والهدى والكفر 
والإيمان !!

والكفر هنا يشمل كل أنواع الكفر، ومنه إنكار البعث فإن كثيراً من الكفار كذبوا بالبعث،
وقالوا: لا يمكن أن يُبعث الناس بعد أن كانت عظامهم رميماً كما قال تعالى: 
{وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم}[يس: 78].

ولهذا قال: {من أي شيء خلقه} استفهام تقرير لما يأتي بعده في قوله: {من نطفة خلقه} 
يعني أنت أيها الإنسان الذي تكفر بالبعث؟ من أي شيء خلقت؟ ألم تخلق من العدم لم 
تكن شيئاً مذكوراً من قبل فوجدت وصرت إنساناً فكيف تكفر بالبعث؟ 
ولهذا قال:{من نطفة خلقه} والنطفة هي في الأصل الماء القليل، والمراد به هنا ماء الرجل
الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب يلقيه في رحم المرأة فتحمل {فقدره} أي جعله
مقدراً أطواراً: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة .
كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً
نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه
الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله
غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه
الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه
وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». فالإنسان مقدر في
بطن أمه من الذي يقدره هذا التقدير؟ من الذي يوصل إليه ما ينمو به من الدم الذي يتصل
به بواسطة السرة من دم أمه؟ إلا الله عز وجل .

ولهذا قال: {ثم السبيل يسره} السبيل هنا بمعنى الطريق يعني يسر له الطريق ليخرج من
بطن أمه إلى عالم المشاهدة، ويسر له أيضاً بعد ذلك ما ذكره تعالى في قوله:
{وهديناه النجدين}[البلد: 10].

يسر له ثديي أمه يتغذى بهما، ويسر له بعد ذلك ما فتح له من خزائن الرزق، ويسر له
فوق هذا كله وما هو أهم وهو طريق الهدى والفلاح وذلك بما أرسل إليه من الرسالات،
وأنزل عليه من الكتب .
ثم بعد هذا {أماته} الموت مفارقة الروح للبدن.
{فأقبره} أي جعله في قبر، أي مدفوناً ستراً عليه وإكراماً واحتراماً؛ لأن البشر لو كانوا
إذا ماتوا كسائر الميتات جثثاً ترمى في الزبال لكان في ذلك إهانة عظيمة للميت ولأهل
الميت، ولكن من نعمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده هذا الدفن، ولهذا قال ابن عباس
رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فأقبره} قال: أكرمه بدفنه.

{ثم إذا شاء أنشره} أي إذا شاء الله عز وجل {أنشره} أي بعثه يوم النشور ليجازيه على عمله. 

وقوله: {ثم إذا شاء أنشره} يعني أنه لا يعجزه عز وجل أن ينشره لكن لم يأتِ أمر الله بعد
ولهذا قال: {كلا لما يقض ما أمره} {لما} هنا بمعنى (لم) لكنها تفارقها في بعض الأشياء،
والمعنى أن الله تعالى لم يقضِ ما أمره، أي ما أمر به كوناً وقدراً، أي أن الأمر لم يتم لنشر
أو لانشار هذا الميت بل له موعد منتظر، وفي هذا رد على المكذبين بالبعث الذين يقولون
لو كان البعث حقًّا لوجدنا آباءنا الآن، وهذا القول منهم تحدٍ مكذوب؛ لأن الرسل لم تقل لهم
إنكم تبعثون الان، ولكنهم قالوا لهم إنكم تبعثون جميعاً بعد أن تموتوا جميعاً.

ثم قال عز وجل مذكراً للإنسان بما أنعم الله عليه .
b{فلينظر الإنسان إلى طعامه}. أي فلينظر إلى طعامه من أين جاء؟ ومن جاء به؟ وهل أحدٌ
خلقه سوى الله عز وجل ؟
وينبغي للإنسان أن يتذكر عند هذه الآية قول الله تبارك وتعالى: {أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم
تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون. إنا لمغرمون بل نحن محرومون}
[الواقعة: 63، 67].

من الذي زرع هذا الزرع حتى استوى ويسر الحصول عليه حتى كان طعاماً لنا؟
هو الله عز وجل، ولهذا قال {لو نشاء لجعلناه حطاماً} أي بعد أن نخرجه نحطمه حتى
لا تنتفعوا به.
{أنا صببنا الماء صبًّا} يعني من السحاب {ثم شققنا الأرض شقًّا} بعد نزول المطر عليها 
تتشقق بالنبات.
{فأنبتنا فيها} أي في الأرض {حبًّا} كالبر والرز والذرة والشعير وغير ذلك من الحبوب
الكثيرة {وعنباً} معروف {وقضباً} قيل: إنه القت المعروف {وزيتوناً} معروف {ونخلاً} معروف {وحدائق غلباً} حدائق جمع حديقة، والغلب كثير الأشجار {وفاكهة} يعني ما يتفكه به الإنسان
من أنواع الفواكه {وأبًّا} الأب نبات معروف عند العرب ترعاه الإبل {متاعاً لكم ولأنعامكم} 
يعني أننا فعلنا ذلك متعة لكم، يقوم بها أودكم، وتتمتعون بها أيضاً بالتفكه بهذه النعم.

ثم لما ذكر الله عز وجل الإنسان بحاله منذ خلق من نطفة حتى بقي في الدنيا وعاش،
ذكر حاله الآخرة في قوله:
b{فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ 
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَـحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ *
 أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.

{فإذا جاءت الصاخة} يعني الصيحة العظيمة التي تصخ الاذان، وهذا هو يوم القيامة .
{يوم يفر المرء من أخيه} من أخيه شقيقه أو لأبيه أو لأمه {وأمه وأبيه} الأم والأب المباشر،
والأجداد أيضاً، والجدات يفر من هؤلاء كلهم .

{وصاحبته} زوجته {وبنيه} وهم أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه. ويفر من هؤلاء كلهم.
قال أهل العلم: يفر منهم لئلا يطالبوه بما فرط به في حقهم من أدب وغيره، لأن كل واحد
في ذلك اليوم

لا يحب أبداً أن يكون له أحد يطالبه بشيء .
{لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} كل إنسان مشتغل بنفسه لا ينظر إلى غيره، ولهذا لما قال
النبي عليه الصلاة والسلام: «إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة، عراة، غرلاً» .

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض»؟ قال النبي
صلى الله عليه وسلّم: «الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض» .

ثم قسّم الله الناس في ذلك اليوم إلى قسمين فقال: {وجوه يومئذ } يعني يوم القيامة 
(مسفرة) من الإسفار وهو الوضوح لأنها وجوه المؤمنين تُسفر عما في قلوبهم من
السرور والانشراح {ضاحكة} يعني متبسمة، وهذا من كمال سرورهم {مستبشرة} أي قد
بشرت بالخير لأن الملائكة تتلقاهم بالبشرى يقولون {سلام عليكم} .

{ووجوه يومئذ} يعني يوم القيامة {عليها غبرة} أي شيء كالغبار؛ لأنها ذميمة قبيحة 
{ترهقها قترة} أي ظلمة .
{أولئك هم الكفرة الفجرة}الذين جمعوا بين الكفر والفجور، نسأل الله العافية، 

ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة إنه جواد كريم .


^^^^^^^^^

هناك تعليق واحد: