الأربعاء، 18 يونيو 2014

تأملات في سورة النازعات


الحمد لله وكفى .. والصلاة والسلام على رسولنا المصطفى ..
وبعد :
هذه تأملاتنا لسورة النازعات ..
---------------------------------

b{والنازعات } يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها
{غرقا} أي نزعاً بشدة.
b{والناشطات نشطا} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين،
تنشطها نشطاً: أي تسلها برفق كالأنشوطة، والأنشوطة: الربط الذي يسمونه
عندنا (التكة) أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطاً بحيث إذا سللت أحد
الطرفين انفكت العقدة وهذا ينحل بسرعة وبسهولة ..

فهؤلاء الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطاً أي: 
تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح إلى
الخروج تناديها بأقبح الأوصاف تقول الملائكة لروح الكافر:
اخرجي أيتها النفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله، فتنفر
الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد حتى يقبضوها بشدة، وينزعوها نزعاً
يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع.

أما أرواح المؤمنين ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها:
أخرجي يا أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أخرجي إلى رضوان الله ،
فيهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه».

قالت عائشة : يا رسول الله: إنَّا لنكره الموت، فقال: «ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره
الموت بُشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب 
الله لقاءه» .

لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها فيفرح ، فيحب
لقاء الله، والكافر ـ والعياذ بالله ـ بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت،
يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه.

{والسابحات سبحا} هي الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح في الماء .
وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار
{كل في فلك يسبحون}[يس: 40].
فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم أي
الملائكة أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر .

b{فالسابقات سبقاً } أيضاً هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة
أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم
لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل.

b{فالمدبرات أمراً} أيضاً وصف للملائكة تدبر الأمر، وهو واحد الأمور يعني أمور الله عز
وجل لها ملائكة تدبرها، حسب أمره فجبرائيل موكل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على
الرسل، وإسرافيل موكل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة ينفخ في الصور فيفزع
الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وميكائيل موكل بالقطر وبالمطر والنبات،
وملك الموت موكل بالأرواح، ومالك موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة، وعن اليمين
وعن الشمال قعيد موكل بالأعمال ، وملائكة موكلون بحفظ أعمال بني آدم كلٌّ يدبر ما أمره
الله عز وجل به.

فهذه الأوصاف كلها أوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأقسم الله سبحانه وتعالى
بالملائكة لأنهم من خير المخلوقات، ولا يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم
إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل.

bثم قال تعالى: {يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة} هذه
{يوم ترجف} متعلقة بمحذوف والتقدير أذكر يا محمد وذكّر الناس بهذا اليوم العظيم:
{يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة}، وهما النفختان في الصور:
- النفخة الأولى : ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاء الله.
- والنفخة الثانية : يبعثون من قبورهم فيقوم الناس من قبورهم مرة واحدة .

إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرادفة انقسم الناس إلى قسمين:
{ قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة. يقولون إنا لمردودون في الحافرة. أإذا كنا عظاماً نخرة قالوا تلك
إذاً كرة خاسرة} .
وهذه قلوب الكفار :
{واجفة } أي: خائفة خوفاً شديداً.
{أبصارها خاشعة} يعني ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غضت أبصارهم ـ والعياذ بالله ـ 

لذلهم قال الله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي}[الشورى: 45].
وأما القسم الثاني فقلوبهم على عكس قلوب هؤلاء : ويدل لهذا التقسيم قوله : { قلوب يومئذ} بصيغة النكرة ، فيكون المعنى : وقلوب على عكس ذلك ،

b{فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة} زجرة من الله عز وجل يزجرون ويصاح بهم فيقومون
من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها . 

قال الله تبارك وتعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون}[يس: 53].
كل الخلق في هذه الكلمة الواحدة يخرجون من قبورهم أحياء، ثم يحضرون إلى الله عز
وجل ليجازيهم، ولهذا قال: {فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة} وهذا كقوله تعالى: 
{وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر}[القمر: 50]. يعني أنَّ الله إذا أراد شيئاً إنما يقول له: 
(كن) مرة واحدة فقط فيكون ولا يتأخر هذا عن قول الله لحظة { كلمح بالبصر} والله عز وجل
لا يعجزه شيء، فإذا كان الخلق كلهم يقومون من قبورهم لله عز وجل بكلمة واحدة فهذا أدل
دليل على أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في
الأرض كما قال تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً}
[فاطر :44].

b{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ
إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآية الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ
فَنَادَى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخرة والأولى * إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى}.

ثم قال تعالى مبيناً ما جرى للأمم قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال الله تعالى:
{هل أتاك حديث موسى} .

والخطاب في قوله: {هل أتاك} للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى خطابه
ويصح توجيه الخطاب إليه، ويكون على المعنى الأول (هل أتاك يا محمد)،

وعلى المعنى الثاني: (هل أتاك أيها الإنسان) .

{حديث موسى} وهو ابن عمران عليه الصلاة والسلام أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو
أحد أولي العزم الخمسة الذين هم:
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح عليهم الصلاة والسلام،
وقد ذكر هؤلاء الخمسة في القرآن في موضعين، أحدهما في الأحزاب . 
في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}[الأحزاب: 7].

والثاني في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم
وموسى وعيسى} [الشورى: 13].

وحديث موسى عليه الصلاة والسلام ذكر في القرآن أكثر من غيره؛ لأن موسى هو نبي
اليهود وهم كثيرون في المدينة وحولها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت
قصص موسى أكثر ما قص علينا من نبأ الأنبياء وأشملها وأوسعها .

وفي قوله: {هل أتاك حديث موسى} تشويق للسامع ليستمع إلى ما جرى في هذه القصة.
{إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} ناداه الله عز وجل نداءً سمعه بصوت الله عز وجل .
قال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًّا}[مريم: 52].
وقوله: {بالواد المقدس} هو الطور، والوادي هو مجرى الماء، وسماه الله مقدساً لأنه كان
فيه الوحي إلى موسى عليه الصلاة والسلام. وقوله: {طوى} اسم للوادي.
{اذهب إلى فرعون إنه طغى} فرعون كان ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى، وأنه
لا إله غيره {وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري} فادعى ما ليس له، وأنكر حق
غيره وهو الله عز وجل، وأمر الله نبيه موسى عليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى فرعون
وهذه هي الرسالة، وبين سبب ذلك وهو طغيان هذا الرجل ـ أعني فرعون ـ  .

وفي سورة طه قال: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى}[طه: 43].
ولا منافاة بين الآيتين وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولاً ثم طلب موسى صلى الله عليه
 وآله وسلم من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسل هارون عليه الصلاة والسلام مع
موسى فصار موسى وهارون كلاهما مرسل إلى فرعون.

وقوله تعالى: {إنه طغى} أي: زاد على حده؛ لأن الطغيان هو الزيادة . 
ومنه قوله تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}[الحاقة: 11].

ومنه الطاغوت: لأن فيه مجاوزة الحد.
{فقل هل لك إلى أن تزكى} الاستفهام هنا للتشويق، تشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه
من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتطلق بمعنى الإسلام والتوحيد .
ومنه قوله تعالى: {وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون}[فصلت: 6، 7].
ومنه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 ـ 10].

b{وأهديك إلى ربك} أي أدلك إلى ربك أي إلى دين الله عز وجل الموصل إلى الله.
{فتخشى} أي فتخاف الله عز وجل على علم منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم،
فإن لم يكن علم فهو خوف مجرد، فذهب موسى عليه الصلاة والسلام وقال لفرعون ما أمره
الله به {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} ولما كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية كما أنه لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة جعل الله سبحانه وتعالى
مع كل رسول آية تدل على صدقه، وهنا قال: {فأراه الآية الكبرى} يعني أرى موسى فرعون
الآية الكبرى، فما هي هذه الآية؟ الآية أن معه عصاً من خشب من فروع الشجر كما هو
معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من
آيات الله أن شيئاً جماداً إذا وضع على الأرض صار حية تسعى، وإذا حمل من الأرض عاد
في الحال فوراً إلى حاله الأولى عصا من جملة العصي، وإنما بعثه عليه الصلاة والسلام
بهذه الآية، وبكونه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء أي من غير عيب، أي: بيضاء بياضاً ليس بياض البرص ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بالعصا واليد؛
لأنه كان في زمن موسى السحر منتشراً شائعاً فأرسله الله عز وجل بشيء يغلب السحرة
الذين تصدوا لموسىعليه الصلاة والسلام. قال أهل العلم: وفي عهد عيسى صلى الله عليه
وآله وسلم انتشر الطب انتشاراً عظيماً .

فجاء عيسى بأمر يعجز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء، إذا جيء إليه
بشخص فيه عاهة أي عاهة تكون مسحه بيده ثم برىء بإذن الله {يبرىء الأكمه والأبرص} 
مع أن البرص لا دواء له لكن هو يبرىء الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرىء الأكمه الذي
خلق بلا عيون، وأشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتى إليه بالميت فيتكلم
معه ثم تعود إليه الحياة، وأشد من ذلك وأبلغ أنه يخرج الموتى بإذن الله من قبورهم، يقف
على القبر وينادي صاحب القبر فيخرج من القبر حيًّا، وهذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تماماً لما كان عليه الناس.

bقال أهل العلم:
أما رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم منقبة للإنسان فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله .

قال الله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان
بعضهم لبعض ظهيراً}[الإسراء: 88].

يعني لو كان بعضهم يعاون بعضاً فإنهم لن يأتوا بمثله. حينئذ نقول إن موسى عليه الصلاة والسلام أرى فرعون الآية الكبرى ولكن لم ينتفع بالآيات {وما تغني الآيات والنذر عن قوم 
لا يؤمنون}[يونس: 101].

{إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب}[يس: 11]
فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية ـ والعياذ بالله ـ .
ولهذا قال: {فكذب وعصى} كذب الخبر، وعصى الأمر، يعني قال لموسى إنك لست رسولاً
بل قال {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}[الشعراء: 27].
وعصى الأمر فلم يمتثل أمر موسى ولم ينقد لشرعه.

b{ثم أدبر يسعى} أي تولى مدبراً يسعى حثيثاً.
{فحشر فنادى} حشر الناس أي جمعهم ونادى فيهم بصوت مرتفع ليكون ذلك أبلغ في نهيهم
عما يريد منهم موسى عليه الصلاة والسلام.

b{فقال أنا ربكم الأعلى} يعني لا أحد فوقي لأن {الأعلى} اسم تفضيل من العلو، فانظر كيف
استكبر هذا الرجل وادعى لنفسه ما ليس له في قوله: {أنا ربكم الأعلى} وكان يفتخر بالأنهار والُملك الواسع يقول لقومه في ما قال لهم : {يا قومِ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي
أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}[الزخرف:: 51، 52].

فما الذي حصل؟ أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به، وأورث الله ملك مصر بني
إسرائيل الذين كان يستضعفهم.

{فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، {نكال الآخرة والأولى} يعني
أنه نكّل به في الآخرة وفي الأولى، فكان عبرة في زمنه، وعبرة فيما بعد زمنه إلى يوم القيامة، كل من قرأ كتاب الله وما صنع الله بفرعون فإنه يتخذ ذلك عبرة يعتبر به، وكيف أهلكه الله
مع هذا الملك العظيم وهذا الجبروت وهذا الطغيان فصار أهون على الله تعالى من كل هين.

b{إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} {إن في ذلك} أي فيما جرى من إرسال موسى إلى فرعون ومحاورته إياه واستهتار فرعون به واستكباره عن الانقياد له عبرة .

{لمن يخشى} أي يخشى الله عز وجل، فمن كان عنده خشية من الله وتدبر ما حصل لموسى
مع فرعون والنتيجة التي كانت لهذا ولهذا فإنه يعتبر ويأخذ من ذلك عبرة، والعبر في قصة موسى كثيرة ، فهي عبر يعتبر بها الإنسان يصلح بها نفسه وقلبه حتى يتبين الأمر.

b{أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَـهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَـهَا * وَالاَْرْضَ بَعْدَ
 ذَلِكَ دَحَـهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَـهَا * مَتَـعاً لَّكُمْ وَلاِأنْعَـمِكُمْ}.

{ءأنتم أشد خلقاً أم السماء} هذا الاستفهام لتقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث وقالوا: {من يحيي العظام وهي رميم}[يس: 78].

فيقول الله عز وجل: {ءأنتم أشد خلقاً أم السماء} الجواب معلوم لكل أحد أنه السماء .

كما قال تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}[غافر: 57].
{بناها} هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها . 
ولهذا ينبغي للقارىء إذا قرأ أن يقف على قوله {أم السماء} ثم يستأنف . 
فيقول: {بناها} فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، {بناها} أي بناها الله عز وجل وقد
بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة فقال: 
{والسماء بنيناها بأيد} 
أي بقوة وقد يظن ظان أن الأيد هنا جمع يد ، وليس كذلك لأن أيد مصدر (آد) يئيد اي قوي .

{رفع سمكها فسواها} رفعه يعني عن الأرض ورفعه عز وجل بغير عمد ، 
كما قال الله تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها}[الرعد: 2].

b{فسواها} أي جعلها مستوية تامة كاملة . 
كما قال تعالى في خلق الإنسان: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك}[الانفطار: 6، 7].
فسواك: أي جعلك سويًّا تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل.

{وأغطش ليلها} أغطشه أي أظلمه، فالليل مظلم، قال الله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة}[الإسراء: 12].

{وأخرج ضحاها} بينه بالشمس التي تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب من مغربها.
{والأرض بعد ذلك} أي بعد خلق السماوات والأرض {دحاها} بين سبحانه هذا الدحو 
بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء . 

كما قال الله تعالى: {قل أئِنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب
العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى
إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في 
يومين}[فصلت: 9 ـ 12] .

bفالأرض مخلوقة من قبل السماء لكن دحوها وإخراج الماء والمرعى منها كان بعد خلق السماوات.

{والجبال أرساها} أي جعلها راسية في الأرض فلا تنسفها الرياح مهما قويت ، وهي أيضاً
تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق كما قال تعالى : { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم }.

b{متاعاً لكم ولأنعامكم} أي جعل الله تعالى ذلك متاعاً لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب،
ولأنعامنا أي مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها. التي تدر علينا وتنمو بها أموالنا .

ولما ذكَّر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته ورحمته ذكرهم بمآلهم
الحتمي الذي لابد منه، فقال عز وجل:
{فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى *
 وَءاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِي الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * 
فَإِنَّ الْجَنَّةَ  هِي الْمَأْوَى} .
b{فإذا جاءت الطامة الكبرى} وذلك قيام الساعة، وسماها طامة لأنها داهية عظيمة تطم
كل شيء سبقها.

{الكبرى} يعني أكبر من كل طامة.
{يوم يتذكر الإنسان ما سعى} لهذا اليوم الذي تكون فيه الطامة الكبرى وهو اليوم الذي يتذكر
فيه الإنسان ما سعى، أي ما يعمله في الدنيا يتذكره مكتوباً بكتاب ، عنده يقرأه هو بنفسه
قال الله تعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}
[الإسراء: 13، 14].
فإذا قرأه تذكر ما سعى أي ما عمل، أما اليوم فإننا قد نسينا ما عملنا، عملنا أعمالاً كثيرة
منها الصالح، ومنها اللغو، ومنها السيىء، لكن كل هذا ننساه، وفي يوم القيامة يعرض
علينا هذا في كتاب ويقال اقرأ كتابك أنت بنفسك {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}[الإسراء: 14].

فحينئذ يتذكر ما سعى : {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40].
{وبُرِّزت الجحيم لمن يرى} {برزت} أظهرت تجيء تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام فيه سبعون
ألف ملك يجرونها، إذا ألقي منها الظالمون مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً ، فتنخلع
القلوب ويشيب المولود ولهذا قال: {فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا} .
هذان وصفان هما وصفا أهل النار .
الطغيان : وهو مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا على الآخرة بتقديمها على الآخرة وهما متلازمتان
فكل من طغى فقد آثر الحياة الدنيا وكذلك العكس .
والطغيان مجاوزة الحد، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[الذاريات: 56].
فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهذا هو الطاغي لأنه تجاوز الحد، فأنت مخلوق لا لتأكل وتتنعم وتتمتع كما تتمتع الأنعام، بل أنت مخلوق لعبادة الله فاعبد الله عز وجل، فإن لم تفعل فقد طغيت فهذا هو الطغيان ألا يقوم الإنسان بعبادة الله.
{وآثر الحياة الدنيا} أي قدمها على طاعة الله عز وجل مثاله :
إذا أذن الفجر آثر النوم على الصلاة، وإذا قيل له أذكر الله آثر اللغو على ذكر الله وهكذا...
{فإن الجحيم هي المأوى} أي هي مأواه، والمأوى هو المرجع والمقر وبئس المقر مقر جهنم 
ـ أعاذنا الله منها ـ .

{وأما من خاف مقام ربه} يعني خاف القيام بين يديه؛ لأن الإنسان يوم القيامة سوف يقرره الله
عز وجل بذنوبه حين يخلو به ويقول عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا كما جاء في الصحيح،
فإذا أقر قال الله له: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم » ، فهذا الذي خاف هذا المقام .
b{ونهى النفس عن الهوى} أي عن هواها ، المخالف لأمر الله ورسوله ، والنفس أمَّارة بالسوء
لا تأمر إلا بالشر . ولكن هناك نفس أخرى تقابلها وهي النفس المطمئنة ؛

b{فإن الجنة هي المأوى} الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى:
{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}[السجدة: 17].

هكذا جاء في القرآن، وجاء في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت،
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .

b{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَـهَآ * إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)
{يسألونك عن الساعة أيَّان مرساها} {يسألونك} يعني يسألك الناس كما قال تعالى في آية أخرى:
{يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله}[الأحزاب: 63].

(مرساها) أي متى وقوعها سؤال الناس عن الساعة ينقسم إلى قسمين: سؤال استبعاد وإنكار
وهذا كفر كما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلّم عن الساعة واستعجلوها، وقد قال
الله عن هؤلاء: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق}.

وسؤال عن الساعة يسأل متى الساعة ليستعد لها وهذا لا بأس به، وقد قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال له : «ماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله. 

قال: «المرء مع من أحب» ، فالناس يسألون النبي عليه الصلاة والسلام ولكن تختلف نياتهم
في هذا السؤال، ومهما كانت نياتهم ومهما كانت أسئلتهم فعلم الساعة عند الله . 

ولهذا قال: {فيمَ أنت من ذكراها} يعني أنه لا يمكن أن تذكر لهم الساعة، لأن علمها عند الله كما
 قال تعالى في آية أخرى: {قل إنما علمها عند الله}[الأحزاب: 63].

وقد سأل جبريل عليه السلام وهو أعلم الملائكة، بوحي الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وهو أعلم البشر بذلك قال: أخبرني عن الساعة. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، يعني أنت إذا كانت خافية عليك فأنا خافية علي،
وإذا كان أعلم الملائكة وأعلم البشر لا يعلمان متى الساعة فما بالك بمن دونهما، وبهذا نعرف
 أن ما يشيعه بعض الناس من أن الساعة تكون في كذا وفي كذا وفي زمن معين كله كذب،
نعلم أنه كذب؛ لأنه لا يعلم متى الساعة إلا الله عز وجل.

b{إنما أنت منذر من يخشاها} يعني ليس عندك علم منها ولكنك منذر {من يخشاها} أي يخافها
وهم المؤمنون،أما من أنكرها واستبعدها وكذبها فإن الإنذار لا ينفع فيه {وما تغني الايات والنذر
عن قوم لا يؤمنون}[يونس: 101].

ولهذا نقول لا تسأل متى تموت ولا أين تموت لأن هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال أمر مفروغ
منه ولابد أن يكون ومهما طالت بك الدنيا فكأنما بقيت يوماً واحداً بل كما قال تعالى هنا:

b{كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} ولكن السؤال الذي يجب أن يرد على النفس 
ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو على أي حال تموت؟! ولست أريد على أي حال تموت
هل أنت غني أو فقير، أو قوي أو ضعيف، أو ذو عيال أو عقيم، بل على أي حال تموت في
العمل، فإذا كنت تساءل نفسك هذا السؤال فلابد أن تستعد؛ لأنك لا تدري متى يفجَؤُك الموت،
كم من إنسان خرج يقود سيارته ورجع به محمولاً على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من
أهله يقول هيئوا لي طعام الغداء أو العشاء ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبس قيمصه وزر أزرته ولم يفكها إلا الغاسل يغسله، و هذا أمر مشاهد لكل أحد بحوادث بغتة.

فانظر الآن وفكر على أي حال تموت، ولهذا ينبغي لك أن تكثر من الاستغفار ما استطعت،
فإن الاستغفار فيه من كل هم فرج، ومن كل ضيق مخرج، حتى إن بعض العلماء يقول إذا استفتاك شخص فاستغفر الله قبل أن تفتيه، لأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين الهدى واستنبط ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن
للخائنين خصيماً. واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً}[النساء: 105، 106].

bوهذا استنباط جيد، ويمكن أيضاً أن يستنبط من قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}[محمد: 17].
والاستغفار هو الهدى، لذلك أوصيكم بالمراقبة، وكثرة الاستغفار، ومحاسبة النفس حتى نكون على أهبة الاستعداد خشية أن يفجأُنا الموت ـ نسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة ـ.
{كأنهم يوم يرونها} أي يرون القيامة {لم يلبثوا إلا عشية
أو ضحاها} العشية من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى من طلوع الشمس إلى زوالها،
يعني كأنهم لم يلبثوا إلا نصف يوم، وهذا هو الواقع لو سألنا الآن كم مضى من السنوات علينا؟ هل نشعر الآن بأنه سنوات أو كأنه يوم واحد؟ لا شك أنه كأنه يوم واحد.

والإنسان الآن بين ثلاثة أشياء:
- يوم مضى فهذا قد فاته .
- ويوم مستقبل لا يدري أيدركه أو لا يدركه .
- ووقت حاضر هو المسؤول عنه .
- وأما ما مضى فقد فات وما فات فقد مات، هلك عنك الذي مضى .
والمستقبل لا تدري أتدركه أم لا .
والحاضر هو الذي أنت مسؤول عنه.

نسأل الله تعالى أن يحسن لنا العاقبة، وأن يجعل عاقبتنا حميدة، وخاتمتنا سعيدة إنه جواد كريم.

^ ^ ^ ^ ^ ^ ^ ^ ^ ^ ^


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق