الخميس، 15 مايو 2014

تأملات في سـورة البروج


الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله ...
أما بعد ..
فهذه تأملات في سورة البروج ..
---------------------------------   

= اختلف العلماء في أصحاب هذه القصة ومن يكونون على أقوال لعلّ من
أظهرها ما رواه مسلم عن طريق صهيب الرومي في قصة الغلام والساحر
والملك والشهيدة ، وأيا كان الأمر فالعبرة بمضمون القصة لا في تحديد
أشخاصها ولذا أبهم القرآن الأسماء والأشخاص والزمان والمكان في هذه
الحادثة المأساة !..

= القسم بالسماء له مذاق خاص ذو أثر في النفس عجيب لمن تأمل فليس
في الكون المشاهد المحسوس آية أكبر منها, ووالله لو تأمل الناس في هذه
الآية حقّ التأمل لآمنوا وأذعنوا للواحد القهار ، فهي آية عظيمة باعثة على
اليقين والإيمان لمن تدبر وتأمل !.. ولو تأملها الظلمة والطواغيت وعرفوا
عظمة الصانع ، وقدرته الفائقة في مقابل عجزهم وضعفهم لما تجرأوا على
سفك الدم الحرام أو فتن العباد عن دينهم, ولعل هذا من مناسبة القسم بهذه
الآية في معرض سوق قصة أصحاب الأخدود .

^^^^^^^^^^

= (اليوم الموعود) هو يوم القيامة بلا شك ومناسبة القسم به في معرض
سوق هذه القصة كذلك ظاهرة واضحة ذلك أنّ يوم القيامة هو موعد القصاص العادل
من أصحاب الأخدود وغيرهم؛ فإنّ أصحاب الأخدود في حقيقة الأمر لم يذكروا إلا كمثال
للطغيان البشري الأرعن ولم ينوه بذكرهم إلا كأنموذج عابرلحالة الاستبداد الذي يمارسه
الكثيرون من العتاة والجبابرة على مرّ الدهور والعصور, وإلا فإنّ أصحاب الأخاديد المشابهة
وسدنة الظلم والجبروت كثيرون ، متواجدون في كلّ زمان !..
وهؤلاء جميعهم حسبهم ذلك اليوم الموعود حيث توضع الموازين القسط فلا تظلم نفس شيئاً .

وهؤلاء جميعهم حسبهم الحكم العدل سبحانه حيث يقتص من كل ظالم وينتقممن كل جبار عنيد .

= أما القسم بالشاهد والمشهود فلعل مناسبته ولطيف ذكره هو: أنَّ محاكمة أصحاب الأخدود ومحاسبتهم ، والاقتصاص منهم سيتم في هيئة تامة من
العدالة حيث الشاهد على جريمتهم حاضر, والمشهود عليه أمرٌ واقع لا يمكن إنكاره وهذا ما
يرجّح القول بأنّ (شَاهِدٍ ) يعمُّ كل شاهد بلا تحديد ( مَشْهُودٍ )كل ما يشهد عليه دون تخصيصه 
بأمر ما .
وقيل إن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة .

^^^^^^^^^^

= ( قتل أصحاب الأخدود ) القرآن ذكر القصة كأنموذج لكل الحالات المشابهةلأخذ العبرة
والعظة ، وتسلية المبتلين بهذه القصة ، وتوعد المجرمين ،بذات الوعيد ، وبقدر الجريمة !
فالمقام ليس مقام سرد أو استيعاب لكل حوادث التاريخ – وما أكثرها –ممّا قد يفوق جريمة
هؤلاء بمراحل وإنما هو مقام تذكير ووعظ بما يؤدي الغرض وكفى !
وفي العصر الحديث كثر أصحاب الأخاديد بحيث تنكسر الأقلام وتفنى مئاتالصحف قبل أن
تستوعب بعض جرائمهم .
فجرائم الصليبيين بقيادة امبراطورية الشر ، وحاملة لواء النصرانية أمريكا فاقت كل تصور ، وتجاوزت كل حدّ .

= ( إلا أن يؤمنوا بالله ) ومن عجب أنّ سبب التعذيب واحد وهو الإيمان باللهالعزيز الحميد ،
فإنّ هؤلاء الطواغيت الحمقى لا يروق لهم أبداً أن يفرد مالكالملك ، ومبدع الكون بالتوحيد والعبودية ، وليتهم إذ امتنعوا عن التسليم لله بحقه ، بالوحدانية والإلهية تركوا غيرهم
يختارون لأنفسهم ما يرونه صواباً , ولكنهم أبو إلا أن يصدوا عن سبيل الله ويبغونها عوجا ! 
وقريب من العذاب بالنار والتقتيل والتشريد اضطهاد الفئة المؤمنة من خلال التضييق عليهم
في أرزاقهم وفصلهم من وظائفهم ، وبخسهم حقوقهم بسبب إيمانهم واعتقادهم .

^^^^^^^^^^

= ( الذي له ملك السموات والأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) وفي الآية تهديد لكل صاحب أخدود من
هؤلاء وذلك من وجهين بل من وجوه :
1- أنّ الله تعالى له ملك السموات والأرض, وهذا يعني أنّ هؤلاء المجرمين المستبدين الممارسين
لكل طغيان وصلف مملوكون لله تعالى وتحت تصرفه وفي محيط قبضته فأين يذهبون ؟
وإلى أين يفرون ؟.
2- إذا كان هؤلاء يعيشون في ممالك الله الواسعة فكيف يتصرفون في أرض الملك بغير إذنه بل يفعلون خلاف أمره فما ذا عساها تكون العاقبة ؟!.
3- وقد ختمت الآية بقوله : ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) وهذا تهديد واضح من وجهين كذلك :
أ- أنّ الله شهيد على كلِّ شيء ، وليس على حادثة الأخدود فقط .
ب - أنه شهيد بنفسه سبحانه وهو أعظم شاهد كما قال الله تعالى :
( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) .

= بعد أن فرغ تعالى من عرض قصة أصحاب الأخدود باختصار أدّى الغرض ، ببلاغة تامة ، وأسلوب مؤثر؛ ندب في هذه الآيات كل فتّان إلى التوبة ،
وفتح أبواب الندم والإنابة على مصراعيها ، ولم يُقنِّط عباده من رحمته وتدارك أخطائهم ،
وتلافي ذنوبهم مهما كانت فادحة وخطيرة .
فأي عذر بعد هذا ؟ وأي رحمة فوق هذه ؟ ومن المؤكد أنّ من أصرّ على بغيه وعدوانه ، وأبى
أن يغتنم الفرص ويبادر إلى التوبة النصوح فإنّه ذو طغيان وعناد ، وصنف كهذا ما أجدره بـ 
( عَذَابُ جَهَنَّمَ ) و ( عَذَابُ الْحَرِيقِ ) .
ومن المهم الإشارة في هذه المقام بأنّ الفتنة المنهي عنها في هذه السورة ليست قاصرة
على التعذيب الحسي فحسب بل هي تتناول ما هو أبعد من ذلك وأشمل : فتنة الناس عبر بث
الفساد الإعلامي ، وفتنة برامج التربية والتعليم بعرض المذاهب الفكرية الهدامة والمعتقدات الإلحادية وما شابهه ..

^^^^^^^^^^

= ( فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ )
ولشدة أثر الفتنة وسوء عواقبها وخطورة تبعاتها توعد الله الفتانين بعذاب جهنم ، وقد اتخذ
هذا الوعيد صيغة التكرار من جهة وصيغة التقديم والتأخير من جهة ثانية .
فأما التكرار فهو واضح من خلال إعادة جملة : ( فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ) بـ صيغة أخرى : ( وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ) وفي هذا ما فيه من التهديد والوعيد الذي تقشعر من هوله الأبدان! .
وأما التقديم والتأخير فقد تقدم نظير هذا والمراد تقديم الجار و المجرور في الجملتين وهو الخبر على المبتدأ وهو ( عَذَابُ ) في الجملتين أيضاً .
وهذا التقديم والتأخير مفيد للحصر والاختصاص, أي كأنّ العذاب خاص ومحصور بهؤلاء دون غيرهم!.

= ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )
هذه الآية الكريمة في مقابل الترهيب الذي سبقها وذلك أسلوب القرآن الكريم في المزاوجة بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد كما تضمنت الآية عدة محفزات مثيرة كالتقديم والتأخير
في قوله " لَهُمْ جَنَّاتٌ "حيث قدم الخبر وهو الجار والمجرور ( لَهُمْ ) على المبتدأ ( جَنَّاتٌ ) ، 
وهذا مفيد للحصر والاختصاص .

= الله عز وجل يذكر ثلاثة أنواع من الفوز :
الفوز العظيم، الفوز الكبير، الفوز المبين ..
أعلاها العظيم وأقل منه الفوز الكبير وأقل منهما الفوز المبين ..
وقد ذُكر الكبير في قصة أصحاب الأخدود فقط ..

^^^^^^^^^^

= ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ .....) في هذه الآيات تقرير لقوة الله الباهرة ، وقدرته القاهرة فبطشه سبحانه شديد لا يحتمل ، وآيات عزته وجبروته لا تُبارى ولا تجارى!..
وهذه الآيات تذكير لكل من يعي الخطاب ، ويفهم الوعظ الجميل بأن يتخلى عن كبريائه ، ويتنازل عن صلفه وغروره ، وإلا فإنّ بطش الرب تعالى غير محتمل ، وقد ذكر الله في ختام السورة مثالاً
لما جرى للفراعنة وثمود ، أما التفصيل ففي مواضع أُخر من الكتاب العزيز .

= ( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ) أي: صاحب العرش العظيم، الذي من عظمته، أنه وسع السماوات
والأرض والكرسي، فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، بالنسبة لسائر الأرض،
وخص الله العرش بالذكر، لعظمته، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى، وهذا على
قراءة الجر، يكون ( المجيد ) نعتا للعرش، وأما على قراءة الرفع، فإن المجيد نعت لله ،
والمجد سعة الأوصاف وعظمتها .

= ( فِي تَكْذِيبٍ ) يعني ساقطون في الكذب يعني في مثل اللجة يعني الكذب محيط بهم .
إشارة إلى عدم انتفاع هؤلاء الكفار بما جرى لأسلافهم من الخزي والنكال إذ لا زالوا سادرين
في غيهم ، تائهين في صحراء غرورهم !.

^^^^^^^^^^

= ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ختمها تعالى بالتذكير بالقرآن العظيم الذي من أجله
حورب المسلمون, ولأجله حقد الحاقدون, وشنأ الشائنون بيد أنّ ذلك كله لا ينبغي أن يكون
مانعاً للمسلمين أن يستمروا على طريقتهم ويتشبثوا بعقيدتهم فإنّ الله ناصرهم ومؤيدهم
ومظهرهم على عدوهم .

^^^^^^^^^^

فوائد قصة أصحاب الأخـدود :
================

1- بطل هذه القصة المثيرة غلام !!..
وهذا الغلام هو الذي أجرى الله على يديه هذه الأحداث ، مما يدعونا إلى أن نهتم بالأطفال
أبلغ اهتمام ، يقول الرافعي رحمه الله : ( إن الفج اليوم هو الناضج غداً ) فالأطفال اليوم هم
في الغد رجال سيحملون ما يحملون من أفكار ، وربما مجدد العصر يكون بين هؤلاء 
الأطفال !..
إن علاقتنا مع أطفالنا علاقة عضوية فقط ، علاقة طعام وشراب ..
أما علاقة التربية فهي منقطعة !.. فالتربية هي عملية بناء الطفل شيئاً فشيئاً
إلى حد التمام والكمال ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها
الناس والحجارة) .

2- أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه ، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم وانتهكوا أعراضهم ، لا تستغرب فلله تعالى في هذا
حكمة ، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم ، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون ، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما
حصل لإخوانهم !.

4- سنة الابتلاء من سنن الله عز وجل يجب الصبر عليها ، والناس تتفاوت درجاتهم في ذلك .

5- العبد إذا وجد طعم الإيمان وذاق حلاوته ، فإن ذلك يشغله عما يتعرض له الجسد من إيلام
وعذاب ، فالقلب يأسر الإيمان لموافقته للفطرة السليمة فيتحمل المؤمنون أشد ألوان الأذى
ويكون أيسر على المؤمن أن تخرج روحه من جسده ، ولا يخرج الإيمان من قلبه .

6- تأمــل قول الحسن البصري رحمه الله : " انظروا إلى هذا الكرم والجود ، يقتلون أولياءه ويفتنونهم ، وهو يدعوهم إلى المغفرة والتوبة !! " ..

7- ليس مفهوم النصر أن تنتصر هذه الفئة المؤمنة ، إنما المفهوم الحقيقي للنصر هو
انتصار المبدأ السليم والفكر الصحيح ، فالمفهوم الحقيقي للنصرهو انتصار المبدأ لا انتصار
الأفراد والأشخاص .

8- صفة الثبات على المبدأ من أهم الصفات التي يجب أن يتمتع بها الإنسان المسلم في 
عصرنا هذا وفي كل العصور ، لاسيما ونحن نرى سرعة تخلي الإنسان عن مبدئه مقابل
عرض من الحياة الدنيا !!.. والله المستعان .

                                       نفعنا الله بكتابه ورزقنا تلاوته وتدبره والعمل به ..


^^^^^^^^^^

هناك تعليقان (2):