الأربعاء، 23 أبريل 2014

تأملات في سورة الغاشـية

تأملات في سورة الغاشـية :
===============
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على سيد المرسلين ..
وبعد :
نبدأ درسنا التدبري لهذا اليوم في سورة الغاشية ..

ð سورة الغاشية سورة مكية من السور التي نقرؤوها في مناسبات عدة ..
فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه أنه سئل :
( بم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة ؟
قال :( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) نسمعها يوم الجمعة، ويوم العيد ..
ð وقد تناولت موضوعين :
القيامة وأهوالها .. الأدلة والبراهين على وحدانية الله وقدرته في الكون ..
ð يسوقُ الله تعالى جملة من أحداث القيامة بادئاً الحديث في هيئة استفهام لافت للأنظار ،
جامع للانتباه ، مستحضر للحواس !..

ð ( وَهَلْ أَتَاكَ ) جيء بهذا الاستفهام للتشويق إلى معرفة الخبر بما يترتب عليه من الموعظة، ويدل على أهمية الخبر الذي بعده، وهذا في القرآن كثير كما في قوله تعالى : ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ)[ص:21] ..
( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى)[طه:9] وهنا: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ )[الغاشية:1]  ،
ð وذكر الحديث ولم يفصل فيه أي حديث عن الغاشية هو؛ وذلك لزيادة التشويق في القلب:
أي حديث هو؟!
وذلك لأن الآتي من الأخبار عنهم، فيصبح الذهن متوجهاً ليعرف هذا الخبر وهذا الحديث،
وليتمكن في القلب.

ð القرآن الكريم يستعمل المجيء لما فيه صعوبة ومشقة ، أو لما هو أصعب وأشق مما تستعمل له ( أتى ).
وقد تقول : قوله : ( هَلْ أَتاكَ حَديثُ الغَاشِيَة ) .
والجواب : أن الذي جاء هنا هو الحديث وليس الغاشية في حين أن الذي جاء في النازعات وعبس هو الطامة والصاخة ونحوهما مما ذُكر ..                                        
 لم يقل أتتكم الغاشية وإنما حديث الغاشية ، حديث يعني الكلام، هناك جاءت الصاخة أو الطامة وليس الحديث عنها .

ð سبحان الله ! إنك إن تتأمل أسماء يوم القيامة تجد أنها أسماء ضخمة :                        
حاقة ، قارعة، صاخة، غاشية، آزفة، كلها تهز القلب والوجدان..  
لها معانٍ ضخمة يقف المسلم معها متأملاً : أي حديث هو؟!..
ð وسميت غاشية ؛ لأنها من الغشيان، فهي تغطي على القلوب فلا تستشعر شيئاً، ويصبح الإنسان في فزع، وقد حكاه الله في قوله :( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) ..

ð ( وجوه يومئذ ) خَصّ الوجوه بالذكر؛ لأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان ، فإذا كان الوجه ذليلاً كان غيره من باب أولى , وفي الآية جمع بين العذاب الحسي, والقهر المعنوي لجماعة المجرمين !!..
 ð فالوجه تظهر فيه معالم ما في القلب، فإنك عندما ترى أخاك أو عزيزك أو قريبك وتنظر إلى ملامح وجهه تعرف أهو مسرور أم مصاب، وتعرف أنه في حزن أو في فرح، وتصبح تلك الوجوه تعبر عما في القلوب وأثر الجوارح عليها، وليس المقصود هنا الوجه وحده وإنما الجسد كله، ويعبر عن الوجه هنا بالذات، وقال بعض العلماء: يستدل عليه بقول الله تعالى: ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )  [الرحمن:27] مقصود به الله سبحانه وتعالى ..

ð قوله تعالى : ( وجوه يومئذ خاشعة ) لا يقصد خشوع العبادة وإنما يقصد خاشعة أي ذليلة ..
كما قال تعالى عن إبليس : ( إني أخاف الله ) فخوفه هنا ليس خوف عبادة وإنما خوف هلاك ..
 فالخشوع لله سبحانه وتعالى غير الخشوع يوم القيامة ، والمذلة لأهل النار
( وجوه يومئذ خاشعة ) بمعنى ذليلة وخاضعة ومنكسرة ، فهو خضوع ومذلة لما شهدوه من سوء أعمالهم فيُذهب بهم إلى النار ..

ð  ( عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ) أي: عملت في الدنيا عملاً لا ينفعها عند الله ونصبت لأجله وتعبت ..
وقيل : تُكلّف في جهنم بمكابدة أشق الأعمال !..
وقال بعض المفسرين : هذه الآية تنطبق في الدنيا على طائفتين:
الطائفة الأولى : أهل الأديان الباطلة والملل الفاسدة .
الطائفة الثانية : وتنطبق على المبتدعة؛ لعدم تأسيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ..
من الناس من يكون مبتدعاً في دينه، ترى عنده كثرة التأله، والذكر، والركوع، والسجود،
ولكنك لا تراه متأسياً بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم .. كم نرى من الصوفية من الأذكار العظيمة، وكثرة الصلاة والصيام والمواصلة فيه، ومع ذلك لا يستفيدون؛ لأن من شرط العمل: أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، وأن يكون متأسياً فيه بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواجب علينا؛ فنحرص أشد الحرص على هذين الأصلين العظيمين: الإخلاص والمتابعة ..

ð  ( الضريع ) نبت ذو شوك لاصق بالأرض ، تسميه قريش ( الشّبْرِق) إذا كان رطباً ، فإن كان يابساً فهو الضريع ، لا تقربه دابة ولا بهيمة ، ولا ترعاه !..
فإن قال قائل : فما وجه الجمع بين قوله هنا ( لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ )                       
وقوله ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ )[الحاقة ( 35- 36 ] .
أجاب القرطبي :
" وجه الجمع أنّ النار دركات ، فمنهم من طعامه: الزقوم ، ومنهم من طعامه : الغسلين ،
ومنهم من طعامه: الضريع " ا. هـ .

ð  ( لا يسمن ولا يغني من جوع )
الأصل في الطعام أن الإنسان حين يطعم فإنه يطعم لأمرين :
- إما أن يطعم لكي يسمن ، وإما أن يطعم ليدفع حاجة الجوع التي في جسده وشدتها،
ولهذا قال الله : (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) [الغاشية:6-7] فما يزيده إلا
ألماً على ألم !!.. نعوذ بالله ..

ð  ( فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ) : أي في الجنة عين ماء جارية بأعذب الماء وأحلاه فهو غير آسن ولا
متغير الطعم .
قال ابن كثير :
وهذه نكرة في سياق الإثبات ، وليس المراد بها عين واحدة ، إنما هذا جنس ، يعني : فيها عيون جاريات ..

ð  النمارق هي : الوسائد التي يتكئ عليها أهل الجنة اتكاء لذة وتنعم لا استراحة واسترخاء ، فما في الجنة تعب ولا إعياء !..

ð  ( لا تسمع فيها لاغية ) ليس في الجنة إلا السلام والوئام , والتسبيح والتحميد ، والتكبير والتهليل, والثناء على الرب الجليل ، وزيارة الأنبياء والأولياء ، ومجالسة الأهل والأبناء بأعذب الكلام وأجمله ، وأرقه ، وألطفه !..
وفيه تنبيه : على أن الجنة دار جد فلا مكان لما لا فائدة منه ..
وهنا وقفة تربوية مع ألسنتنا .. فكم نجلس في المجالس فيحصل منا اللغط، وكم نجلس المجالس فنتكلم بأمور قد لا تعود علينا بالنفع في الدنيا ولا في الآخرة ، وأهل الجنات كلامهم كله حق ونافع ومشتمل على ذكر الله تعالى، وذكر نعمه المتواترة عليهم ..

ð  ( أفلا ينظرون ) دعوة لعبادة التفكر والتأمل في خلق الله وبديع صنعه في هذا الكون ..
أفمن كان هذا صنعه, وهذا خلقه, يعجز عن بعث قطعة لحم ممزقة ، وكومة عظام مفتتة ؟!..

ð  قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية :
يقول تعالى آمرا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته            
" أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " فإنها خلق عجيب ، وتركيبها غريب ، فإنها في غاية القوة والشدة ، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل ، وتنقاد للقائد الضعيف ، وتؤكل ، وينتفع بوبرها ، ويشرب لبنها ، ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل ..
وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت ؟!..
وذكر الإبل أولا لأنها أنفس أموال العرب وكثيرة فيهم , ولم يروا الفيلة ، فهي من كرائم أموالهم، وهي من أحب النعم إليهم، ولهذا يشترون بها ويبيعون ويجاهدون عليها إلى غير ذلك، فنبههم جل ثناؤه على عظيم من خلقه ..

ð  قلَّ من يعتبر ويتعظ من تلك السماء، ونحن نراها في سفرنا وحضرنا، كم للسماء من الأثر العظيم ( وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون) ..

ð  إن سَوق آيات الربوبية ليس المقصود منها أن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر فذاك أمر معروف، وإنما يراد منا أن ننتقل من هذا التوحيد إلى توحيد الألوهية: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )[البقرة:22].
وكان كفار قريش يعرفون أن الله هو الخالق الرازق وما نفعهم هذا شيئاً؛ لأنهم لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى، ويتأثروا بهذا النظر إلى معرفة أن الله هو الخالق الرازق للإنسان، والمستحق للعبودية وحده سبحانه وتعالى، ولهذا قال : ( قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)[يونس:101].
وجاءت هنا: ( أَفَلا يَنْظُرُونَ )[الغاشية:17] هم ينظرون ولهم أبصار، والعين يبصر بها الإنسان ويبصر بها الحيوان، لكن الإنسان المؤمن هو المستفيد والمتأثر بذلك أشد التأثير عند التأمل بآيات الله الكونية ..

ð  في آخرها تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، وألا يعبأ بإعراض الكافرين: ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) وختام هذه السورة يحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لأنها منهج للذين يدعون إلى الله ويريدون أن يتأسوا بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ..
 من أعظم الأساليب التي توصل الحق للناس وتجعلهم يقبلون به هو حسن الأدب، فهو يجعل الإنسان ذا سمت عظيم، ويكون كنبيه عليه الصلاة والسلام ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ..

ð  ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) وهاتان الجملتان ختام السورة الشريفة وفيها يتقرر بكل جلاء أنّ العباد إنسهم وجنهم, مؤمنهم وكافرهم, ذكورهم وإناثهم, صائرون إلى الله تعالى, واقفون بين يديه فلا مفر لهم أبدا .. 
{ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً *وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً }
ومن هنا كان الحزم أن يحاسب كلُّ إنسان نفسه قبل أن يحاسب ويزنها قبل أن يوزن ..

ð  بين سورة الغاشية والأعلى ارتباط وأمور مشتركة تكررت في السورتين ، فلا بد أن يكون تخصيص صلاة الجمعة وصلاة العيد بهاتين السورتين لحكم عظيمة وفوائد جليلة ، تعود على المصلي بالنفع عاجلاً وآجلاً ..
فيحسن ذكرها بعد درس سورة الأعلى للجمع بين تأملاتهما كاملة ..
وسأدرجها بإذن الله في الدرس القادم ..
رزقنا الله تدبر كتابه والعمل به ، وجعله شاهدا لنا لا علينا ..
ïðïðïðïðïðïð

هناك 4 تعليقات: