الأحد، 27 أبريل 2014

تأملات في سورة الأعلى :


الحمد لله وكفى .. والصلاة والسلام على رسولنا المصطفى ..

وبعد ..

فهذه تأملاتنا لدرس اليوم في سورة الأعلى ..

-----------------------------------------------------------

= سورة الأعلى، وتُسمَّى أيضا سُورَةُ‏‏ "‏سَبِّحْ"  هي مكيَّة ..

 

= ورَد التسبيح بمُشتقاته سبع مرات في فواتح السور؛ ليَشمل الزمان والمكان؛ دلالةً على أن الله - سبحانه - مُنزَّه عن النقائص دائمًا وأبدًا.

 

قال الكرماني :

"هذه الكلمة استأثر الله بها، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل "الإسراء"؛ لأنه الأصل، ثم بالماضي؛ لأنه أسبق الزمانَين، ثم بالمستقبل، ثم بالأمر في سورة الأعلى استيعابًا لهذه الكلمة مِن جميع جهاتها، وهي أربع: المصدَر، والماضي، والمستقبل، والأمر للمُخاطب"

 

= أضاف ( اسم ) إلى "ربك"، ولم يُضفْها إلى علَمِ الجَلالة؛ فلم يقل: "سبِّح الله"؛

لما يُشعِر به لفظ الربوبية مِن الخَلق والإنعام، وهذا مما يتناسب مع الآيات بعدها مِن الإشارة إلى الخلق والهداية، والبشارة بجمع القرآن في صدره وتيسير جميع أمره - صلى الله عليه وسلم - وإضافة كلمة ( رب ) إلى الضمير الراجع إلى الرسول مِن باب التشريف له ورفعة قدرِه - عليه السلام.

 

= والأعلى - كما جاء في كتب التفسير - صفةٌ للربِّ، وقيل: للاسم، والأوَّل أَوْلَى؛ فلفظ ﴿ الأعلى ﴾ اسمٌ يُفِيد الزيادةَ في صفة العلو؛ أي: الارتفاع، والارتفاع معدودٌ في عرف الناس من الكمال، فلا ينسب العلو بدون تقييد إلا إلى شيءٍ غير مذموم في العرف، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضَّل عليه أفاد التفضيل المُطلَق، كما في وصفه - تعالى - هنا، ولهذا حُكِي عن فرعون أنَّه قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24].

 

وصف الله نفسه بالأعلى، وإيثار هذا الوصف هنا على ما سواه؛ لأن السورة تضمَّنت الحديث عن القرآن الكريم، فجاء وصف الأعلى؛ ليدلَّ على عُلوِّ القرآن، فهو مِن مُتعلِّقات وصْف العُلوِّ الإلهي.

 

وكما رُوي عن رسول الله حينما نزلت الآية الكريمة قال: ((اجعلوها في سجودكم))، فقد أشار الإمام ابن عاشور إلى نكتة لطيفة في السرِّ مِن وراء ذلك، حاصلُها أنه أمر بذلك ليَقرن المصلي بين التنزيه القَولي والتنزيه الفِعلي؛ لأن السجود قمَّة التنزيه؛ لأنه لا يَضع أشرفَ عُضوٍ في جسده على الأرض إلا لخالقه، فإذا نزَّه الله بلسانه، فيكون قد جمع بين القَولي مِن التنزيه والفِعلي.

 

= ( الذي خلق فسوى ) من أجلِّ الأشياء التي توجِب تنزيهَ الله وتسبيحَه تفرُّدُه - سبحانه - بالخلق والإيجاد، والخَلْقُ من أظهر الأدلَّة وأقواها على وحدانيَّة الله وتفرُّده بالعلوِّ والقهر والعلم المُطلَق؛ ولذلك كانت هذه الطريقة هي المعتمَدة عند أكابر الأنبياء - عليهم السلام[1] - ودليل ذلك ما حُكِي عن إبراهيم - عليه السلام -: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾[الشعراء: 78]، حينما أراد توجيهَ عقول قومه وقلوبهم إلى توحيد الخالق - جل وعلا - وكذا عن موسى في حواره مع فرعون معرِّفًا بربه:

﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ ..

 

وحذف المفعول في الآية الكريمة لإرادة العموم ..

 

= ( والذي قدر فهدى ) الذي يُفهَم من كلام المفسرين أن الآية على عمومها، سواء في التقدير أو الهداية، فالخَلق كلهم مشتركون في ذلك، وما ورد من أقوال السلف لا يُحمَل على التخصيص، بل يُحمل على التمثيل؛ لأن الآية إذا جاءت عامَّة لا تُخصَّص إلا بدليل ..

 

وما ورد عن بعض السَّلف في الآية كقول مجاهد: "هدى الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتِعها".

 

وعن السُّدي: قدَّر الولدَ في البطن تسعة أشهر أو أكثر، وهداه للخروج منه للتمام.

فهو على سبيل التمثيل للآية الكريمة تقريبًا للمعنى ..

 

= ﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴾[الأعلى: 4]؛ أي: أخرَج - سبحانه - من جميع صنوف النباتات والزروع التي ترعاها الأنعام؛ أي: تأكلها، وإيثار لفظ ( المرعى ) دون النبات؛ لما تشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام التي بها الناس ينتفعون أكلاً وزينة وركوبًا، أما الغثاء، فهو ما يَبِس وجفَّ من النبات؛ أي: إن الله خلَقه في بادئ الأمر غضًّا طريًّا أخضر، ثم جعله يابسًا أسود؛ لأن كلمة ( أحوى ) من الحُوَّة، وهي السواد، وكلمة أحوى صفة مؤكدة لـ ( غثاءً )؛ لأن النبات إذا يبِس اسودَّ .

 

= ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾ فعليه القراءَة يتلقَّاها عن ربِّه، وربُّه هو المتكفِّل بعدَ ذلك بقلبه، فلا ينسى ما يُقرِئه ربُّه.

والتعبير بالسين في الإقراء ( إما للتأكيد، وإما لأن المراد إقراء ما أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ، وما سيوحى إليه - عليه الصلاة والسلام - بعد، فهو وعدٌ كريم باستمرار الوحي ) ..

 

وهي بشرى للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما رأينا، تُرِيحه وتُطمئِنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه، الذي كان يندَفِع بعاطفة الحبِّ له، وبشُعُورِ الحرص عليه، وبإحساس التَّبِعَة العُظمَى فيه... إلى تَردِيدِه آيةً آيةً، وجبريل - عليه السلام - يحمله إليه، وتحريك لسانه به خيفةَ أن يَنسَى حرفًا منه، حتى جاءَتْه هذه البشائر المطمئنة بأنَّ ربَّه سيتكفَّل بهذا الأمر عنه.

قال مجاهد والكلبي: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا نزَل عليه جبريلُ بالوحي لم يَفرُغ جبريل من آخِر الآية حتى يتكلَّم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأوَّلها مخافةَ أن يَنساها، فنزلت:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾[الأعلى: 6].

 

وهي بشرى خاصَّة وعامَّة؛ خاصَّة لكونها بشرى للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعامَّة لكونها بشرى لأمَّته من بعدِه إلى يوم الدين، وهذا إشارةٌ إلى صلاحية هذا القرآن الكريم لكلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ أي: عالميَّة الإسلام وديمومته عبرَ العصور والأحقاب، تطمئِنُّ الأمَّة بها إلى أصل هذه العقيدة، فهي من الله، والله كافلها وحافظها في قلب نبيِّها .

 

= ( إلا ما شاء الله ) فائدةُ هذا الاستثناء أن يعرِّفه اللهُ تعالى قُدرتَه؛ حتى يعلم - صلى الله عليه وسلم - أن عدم النسيانِ من فضْله تعالى وإحسانه، لا من قوَّته؛ أي:

حتى يتقوَّى ذلك جدًّا أو ليعرف غيره ذلك"، فينبغي ألا يتكبَّر أحد بما ساق الله له من فضل، وألا يَنسبه لنفسه، بل عليه أن يتواضَع لله ويشكر ..

 

وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين :

الأول:

 أنه كان رجلاً أميًّا، فحفظُه لهذا الكتاب المطوَّل من غير دراسة ولا تَكرار ولا كَتَبة، خارقٌ للعادة؛ فيكون معجِزًا.

الثاني :

أن هذه السورة من أوائل ما نزَل بمكة، فهذا إخبارٌ عن أمر عجيبٍ غريب، مخالِف للعادة سيقع
في المستقبل، وقد وقع فكان هذا إخبارًا عن الغيب؛ فيكون معجزًا" ..

 

= ثم جاءت بعدها جملة معترِضة تعليلاً للجملة قبلها، فقال - عز وجل -: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾[الأعلى: 7]؛ أي: إنه تعالى يعلم ما ظهَر وما بطَن من الأمور، التي من جملتها حالك وحرْصك على حفظ ما يوحى إليك بأسره، فيقرئك ما يُقرئك، ويَحفظك عن نِسيان ما شاء منه، ويُنسيك ما شاء منه؛ مراعاة لما نِيطَ بكل من المصالح .

 

فينبغي على العبد أن يُراقب الله في أقواله وأفعاله، وأحواله وخطراته، وأن يستحي من الله أن يرى منه سوء سيرة أو سريرة .

 

= ( ونيسرك لليسرى ) بشارة ثانية له صلى الله عليه وسلم ، وهو وعد كريم من الله بتيسير جميع أموره - عليه الصلاة والسلام - ويشمل ذلك الوعدُ أمتَه إن اتبعتْ طريقتَه، ويدخل النبي في الوعد دخولاً أوليًّا، وقد ضرب المفسرون من السلف أمثلة لهذا التيسير، فقال مقاتلٌ: أي نهوِّن عليك عمل الجنة، وقيل: نوفِّقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل .

وقيل : للشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السهلة .

وقيل : نهوِّن عليك الوحي حتى تحفظَه وتعمل له، والأَولى حمل الآية على العموم؛ أي: نوفقك للطريقة اليسرى في الدين والدنيا .

 

يسَّره الله لليسرى؛ فكان مثالاً عمليًّا لليُسر في جميع أمره ، وفي تعامُله مع من حوله؛ حتى جذب القلوب إلى ربِّه بتلك الأخلاق الندية العطرة، فلا بد أن يكون اليسر واقعًا نحياه؛ فما خُيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا

 

= والمشهور أن تعلق التيسير يكون بالأمور لا بالأشخاص، كما هو في قوله

- عز وجل -: ﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾[طه: 26]، ولكن الآية الكريمة علقت التيسير بشخص النبي:
﴿ وَنُيَسِّرُكَ ﴾، ثم وصفت الأمر بعد ذلك بـ: "اليسرى"، فهو يسر فوق يسر، ونور فوق نور، والعلة في ذلك كما أشار أبو السعود: "للإيذان بقوة تمكينه - عليه الصلاة والسلام - من اليسرى والتصرف فيها، بحيث صار ذلك ملكةً راسخةً له، كأنه - عليه الصلاة والسلام - جُبِلَ عليها؛
أي: نوفقك توفيقًا مستمرًّا للطريقة اليسرى، في كل بابٍ من أبواب الدين؛ علمًا وتعليمًا واهتداءً وهدايةً .

 

= أجاد الإمام الرازي في الوقوف على وجهٍ في غاية الروعة، والذي يكمن في التعبير بالنون الدالة على التعظيم في قوله - تعالى -: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ ﴾؛ حيث قال:

 "إنما قال : ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ بنون التعظيم؛ لتكون عظمة المعطي دالةً على عظمة العطاء .

 

= ( فذكر ) ذهب المحققون من أهل التفسير إلى أن الآية على عمومها؛ لذلك حذف المفعول، والمعنى ذكِّر الناس كلَّهم؛ فالذكرى نافعة على أية حال، وكما قال الحسن: إنها تذكرةٌ للمؤمن، وحُجَّة على الكافر .

ليس المعنى: فذكِّر إذا كان للذكرى نفعٌ، حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تذكِّر إذا لم تنفع الذكرى؛ إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعةً؛ إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى؛ ولذلك كان قوله - تعالى -: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾[ق: 45] مؤولاً بأن المعنى:
فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد، بل المراد: فذكر الناس كافةً إن كانت الذكرى تنفع جميعهم ..

 

= ( سيذكر من يخشى )

أُدخلت السين الدالة على المستقبل على الآية الكريمة؛ لتدلَّ على أن الذين لديهم استعداد لأن يخشوا ربهم ويَخافوا مِن إنذارته بالعذاب المعجَّل أو المؤجل يحتاجون متابعة تربوية بالتذكير، وعلاجًا يستمر إعطاؤه مدة مِن الزمن؛ حتى يتحقَّق نفع التذكير .

على قدر يقظة القلب وخشيته لله يكون الانتفاع بالوعظ والتذكير، نعم؛ يتأثَّر بالموعظة القلبُ اليَقِظ؛ بل وتزداد مادة حياته؛ ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)

 

حينما سمع الحسن البصري تذكرةً ولم يتأثر بها، قال للمذكِّر: إن بقلبك لعيبًا،

 أو بقلبي !!..

ومَن أراد أن يتأثَّر بالموعظة، فعليه أن يطهِّر قلبه مِن الأدران؛ فكما قال عثمان: لو طَهُرت قلوبنا، لما شبعْنا مِن كلام ربنا، ولا شكَّ أن القرآن يَحوي أكمل المواعظ وأنفعها.

 

= ( وسيجنبها الأشقى ) تعريف الأشقى تعريف الجِنس، فيشمل جميع المشركين، ومِن المفسِّرين مَن حمَله على العهد فقال: أريد به الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة

 

= ( ثم لا يموت فيها ولا يحيى ) العطف بثمَّ في الآية الثانية التي تُفيد التراخي، "و                 ( ثم ) للتراخي في مراتب الشدَّة؛ لأن التردد بين الموت والحياة أفظع مِن صلي النار الكبرى .

وجاءت عبارة "ولا يحيى" تنزيلاً لحياة العذاب منزلة حالة وسطى بين الموت المريح والحياة السعيدة، وهذه الحالة الوسطى هي حالة تعاسة وشقاء دائمَين، وهذه الحالة حَريَّة بألا تُسمى حياة !!..

 

= ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى )

( قد ) حرف يدل على التحقيق فيكون المعنى المراد ذكره : تحققُ فلاح من تزكى أي: طهّر نفسه من رجس الذنوب, ودرن المعاصي , وبادر إلى الطاعات , وعلى رأسها الصلاة والذكر ..

 

= ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )

أي ثواب الآخرة وحياة الآخرة خير من الدنيا وأبقى؛ لعدم فنائها ، بينما الدنيا فانية زائلة !

 

= ( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى )

إنّ هذه الحقائق والمواعظ السالفة في السورة مذكورة بمعناها ومضمونها في صحف إبراهيم الخليل ، وموسى الكليم عليهما الصلاة والسلام ، وهذا يدل على أنّ شرائع الأنبياء متفقة كلها
على أصول الإيمان وأمهات الأخلاق فلله الحمد والمنة .

           ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


المشترك بين سورتي الأعلى والغاشيـة :

======================

 
= التذكير بالآيات الدالة على ربوبية الله وعظمته وقدرته ، فيزداد المؤمن بها إجلالا لربه وتعظيما له عز وجل ..

 

= الناس في الدنيا مؤمن وكافر.. برٌ وفاجر.. أصحاب جنة وأصحاب سعير، وهذا التقسيم الرباني للناس نجد التذكير به في السورتين جميعاً ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى )[الأعلى:10-11].

 والمعرض عن دين الله تعالى، الشقي باتباع هواه في الدنيا متوعد بعذاب أكبر يوم القيامة حُكي في السورتين : ( وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا )[الأعلى:11-13] .

وفي الغاشية  : ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ )[الغاشية:23-24]

فكان الناس على فريقين: متذكر ومعرض.. قسم يخشى، وآخر يشقى، فيوجل قلب المؤمن أن يكون من أهل الشقوة، ويعمل بعمل أهل الخشية.

وإذا كانت سورة الأعلى قد ذُكر فيها وصف الفريقين في الدنيا بأن أحدهما أهله أهل خشية، والآخر أهله أهل شقوة، فإن في سورة الغاشية ذكر لمآل هذين الفريقين؛ إذ بدئت السورة بذكر يوم القيامة؛ لأن أثر هذه القسمة سيكون فيه : ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ )[الغاشية:7 ]

فمن ذُكِّر بهذه الأوصاف يوم الجمعة اضطرب قلبه، واقشعر جلده، وخشي أن يسلك هذا المسلك الوبيء، وخاف أن يكون من هذا الفريق، وحاذر أن يعمل بعمل أهله .

 

= نجد أن السورتين كلتيهما قد جاء فيهما الأمر بالدعوة، مع بيان أن الداعي عليه البلاغ، وليست له الهداية، بل الله تعالى يهدي من يشاء؛ حتى لا ييأس حين لا يستجيب له المدعوون، بل يمضي في الدعوة والبلاغ والتذكير؛ طاعة لله تعالى، ومحبة للناس، ولو لم يتبعه أحد، ونجد في سورة الأعلى قول الله تعالى : ( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى )[ الأعلى:9] .

وفي سورة الغاشية : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ )[الغاشية:21-22].

 

= ومن المعاني العظيمة التي اشتركت السورتان في تناولها زرع المراقبة في قلب العبد، فيجعل من نفسه رقيباً عليها؛ لعلمه أن الله تعالى رقيب عليه، لا يخفى عليه شيء من أقواله وأفعاله ولو أخفاه عن الخلق، وهذا المعنى العظيم جاء في قول الله تعالى في سورة الأعلى : ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى )[ الأعلى:7] وهو محاسب عليه كما أفادته سورة الغاشية : ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ )[الغاشية:25-26].

هناك تعليق واحد: