الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
نبدأ
درسنا التدبري مع سورة البينة وآياتها ..
* موضوع سورة البينة في تأسيس التوحيد وتقرير العبودية لله تعالى وإخلاص
العمل له .
أقرأ عليك سورة البينة، فقال أبي رضي الله عنه : وقد سماني لك يا رسول الله ؟! قال: نعم ،
فبكى أبي رضي الله عنه ..
قال له بعض الصحابة : أفرحت يا أبا المنذر ! قال : ومالي لا أفرح والله
عز وجل قد قال :
) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ ( [يونس:58].
قال الإمام القرطبي رحمه الله:
وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ؛ ليعلم الناس التواضع ، ولئلا
يأنف العالم عن القراءة على من هو دونه، أو أقل منه .
وقال العلامة العثيمين رحمه الله :
أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ سورة البينة على أبي
بن كعب رضي الله عنه ، وذكر هذه السورة بخصوصها لأن أبيا رضي الله عنه كان من أهل الكتاب
أولا ، فأراد الله من قراءة نبيه عليه أن يبين حال أهل الكتاب ، وما من الله به على
أبي حيث أسلم حين جاءته البينة .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
البينة ، والقيمة
، وأهل الكتاب ، ولم يكن ، والانفكاك ، والبرية ..
وهذه كلها من أسمائها، ونحن نعرف من علوم القرآن أن بعض السور لها أكثر
من اسم .
( من أهل الكتاب) من لبيان الجنس وليست تبعيضية والمعنى : لم يكن الذين كفروا سواء كانوا
من أهل الكتاب أو من المشركين ..
ولذلك من الخطأ وقوف البعض عند قوله تعالى (
أهل الكتاب) .
فيقرأ ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)
فيقف .
ثم يستأنف ( والمشركين منفكين) فهذا
يفسد المعنى ..
وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، باعتبار أن أصل دينيهما
كتاب سماوي:
التوراة ، والإنجيل ، أما المشركون فيدخل فيهم عبدة الأوثان، وعبدة النيران،
وعبدة الكواكب والنجوم من العرب وغيرهم .
الكفر اسم جنس يجمع أهل الكتاب مع المشركين ، كما قال الله عز وجل في سورة
التوبة :
) يُضَاهِئُونَ قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ([التوبة:30].
قوله: ( مُنفَكِّينَ ) مأخوذة من الانفكاك
وهو فصل الشيء عن الآخر .
أي : لم يكونوا مزايلين و مباينين وتاركين ما هم عليه من الكفر ( حتى تأتيهم البينة) حتى غائية وليست تعليلية والبينة
هي: كل ما أقيم لإظهار الحق ، وهو الرسول كما بينته الآية التي بعدها .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
*( رسول من الله )
وأضاف الرسول هنا إليه – عز وجل – لشرفه ، لأن :
( النسبة إلى الشريف يَشرُف بها الإنسان )
أما صفات هذا الرسول ، فقال: ( يتلو صحفاً مطهرة
) .
* قوله : ( صحفا ) هو القرآن وسمي بذلك
لأنه مكتوب في الملأ الأعلى في صحف
( مطهرة ) أي: مطهرة من الشك والريبة والباطل والنقص والخلل، ومطهرة من أن تتضارب
وتتناقض، ومطهرة من الشرك والكفر.
قوله تعالى: ) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ([البينة:3].
قال بعض أهل العلم :
الكتب هي القرآن ، وسمي كتباً باعتباره سوراً وباعتباره موضوعات فيها هذه
الأحكام، وهذه القصص، وهذه العقائد، ونحو ذلك. وقال بعض أهل التفسير: بل الكتب القيمة
المقصود بها ما
كان قبل القرآن ، وكل ما فيها من علوم ومعارف أودعها الله في القرآن
، وهذا هو منطوق القرآن ، يقول الله عز و جل : ) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ ( .
ومعنى قيمة في غاية الاستقامة والعدل .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
*قال الله تعالى : ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ( [البينة:4].
لقد تفرق أهل الكتاب واختلفوا، وتفرق المشركون أيضاً، فمرة يقولون: ساحر،
ومرة : كاهن ، ومرة : مجنون ، ومرة : شاعر ، ومرة : يكتب أساطير الأولين ، و مرة : إنما يعلمه بشر.
يقول الله عز و جل : ) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ([الذاريات:10] ، أي
: الكذابون .
وقال : ) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ([الذاريات:8] أي : كل يوم عندكم كلام يختلف عن الذي قبله .
والاختلاف والتنازع يردان في القرآن على سبيل الذم ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) .
وقد خصَّ الله أهل الكتاب بالذكر في قوله : ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ([البينة:4] .
قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره :
قصد الآية التشنيع على كلام مسوق لغاية تشنيع أهل الكتاب خاصة ، أي : لأن
عندهم كتباً ،
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه ، وصفته ، ومولده ، ومهاجره
.
وقد قال الله عز وجل : ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ([البقرة:146] .
وقال عيسى عليه السلام : ) وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ ( [الصف:6] ،
فكان الواجب عليهم ألا يختلفوا ، لكنهم عياذاً بالله ما تفرقوا جهلاً
، وإنما عمداً .
والأشياء التي جعلها الله تعالى ارهاصات وتقدمات بين يدي هذا الرسول كلها
تعينهم على قبول هذا الحق, وعلى الدخول في الدين.. لكن الذي حصل عكس ذلك..
( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة
)
كانوا قبل ذلك.. غير متفرقين, كانوا مجتمعين ينتظرون هذا الرسول, وكانوا
يفتخرون بانتظاره, وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا, وكانوا يتوعدون به – أيضاً – أعداءهم ..
لكن :
الذي حصل ما قال الله تعالى به هنا: إنهم ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم
البيّنة .
إذاً.. الخير الذي بُعث لهم زادهم شرّاً, وزادهم كفراً إلى كفرهم, وهذه
.
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
أيها الأخوة :
من المصائب والنوازل أن الخير يكون شرّاً على بعض الناس, وأن الهُدى يكون
عمىً على آخرين .
الخير لا يأتِ إلا بخير في الغالب .
لكن إذا وافق غير محل فإن ؛ الخير يكون شرّاً لأصحابه .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
* ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي: عبادة لا يخالطها شرك ، ولا رياء ، حنفاء مائلين عن الشرك إلى التوحيد،
وعن الضلال إلى الهدى.
والحنيفية :
هي دين إبراهيم عليه السلام، أساسها التوحيد: لا إله إلا الله، أي: لا
معبود بحق إلا الله.
قوله : ( حُنَفَاءَ ) أي: حنفاء لا يعبدون
أحباراً ولا رهباناً. قوله : ) وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ([ البينة:5] .
هذه في دين كل نبي ، ولذلك أثنى الله على إسماعيل بقوله :
) إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ
أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ
مَرْضِيًّا
([مريم:54-55] .
وأثنى الله عز وجل على غيره من الأنبياء ، بل على أهل الكتاب عموماً فقال
: ) لَيْسُوا سَوَاءً
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ
اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( [آل عمران:113]
فالصلاة والزكاة أساس في جميع الشرائع والأديان. قوله : ) وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( [البينة:5]
أي: هذا هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل ولا انحراف.
ثم خصّ من العمل , عملين :
-
خص إقامة الصلاة ؛ لأنها العلاقة بين الإنسان وربه.
-
وخص ايتاء الزكاة ؛ لأن بها العلاقة بينه وبين خلق الله
عز وجل .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
يستفاد من قوله تعالى : ) إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (
يُستفاد أن الإخلاص في العمل سببٌ لعدم الفُرْقَة .
وهذه الفائدة نفيسة لو تأملتها .
لأن المُخِلص يريد ما عند الله – عز وجل –
والمخلص الثاني يريد ما عند الله عز وجل, والثالث وهكذا..
إذاً لن يَدُبَّ بينهم خلاف .
فالإخلاص : سبب في دفع الفرقة والشقاق والخصام .
إذاً.. إذا دبّ خصام وشقاق وسوء تفاهم بين العاملين في أيّ
مجال هم فيه .
فاعلم أن هذا يُؤشر إلى شيء في اخلاصهم فلينتبهوا لذلك .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
* قال الله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ([البينة:6].
أي : هم في النار ولا أمل لهم في الخروج، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة،
يهودي أو نصراي ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله على وجهه في النار) خالداً مخلداً،
يبقى فيها لا يخرج منها أبداً .
) أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ([البينة:6].
وفي بعض القراءات : )أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّئةِ ( من البرء أي: الخلق ، أولئك هم
شر الخليقة ، شر من الدواب والكلاب ، والخنازير ، والثعابين .
قال الله عز وجل :) إِنّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ
الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( [الأنفال:22] .
وقال سبحانه : ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
([الأنفال:55].
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
* قوله تعالى : ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة
(
ذكر الله تعالى وصفهم , قبل أن يذكر جزاءهم لأنه في الأول
ذكر الجزاء ثم ذكر الوصف .
وهنا ذكر الوصف وأخرّ الجزاء, ليُبيّن أنهم إنما أخذوا الجزاء
بهذا الوصف الذي هو من صفاتهم .
أي: هم خير خلق الله، وهذه الآية استدل بها من يقول: إن المؤمنين أفضل
من الملائكة، وهذه المسألة من فضول المسائل التي لا يتعلق بالبحث فيها عمل.
قال تعالى : ) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ
خَشِيَ رَبَّهُ([البينة:8].
قوله : ) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ( الله عز وجل يسمي الجنة دار السلام ، ويسميها جنات النعيم ، ويسميها جنات
عدن ، وعدن أي : إقامة ، ومنه سمي المعدن معدناً ؛ لأنه مستقر .
يقال : عدن فلان إذا
أقام واستقر .
فقوله : ) جَنَّاتُ عَدْنٍ ( أي : جنات إقامة أبدية لا يخرجون منها ، ولا ينامون ولا يموتون ولا يسقمون
ولا يهرمون .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
* ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ([البينة:8] .
) ورضوان من الله أكبر ( أي : رضي الله عنهم بأعمالهم .
) وَرَضُوا عَنْهُ ([البينة:8] ، أي:
لما دخلوا الجنة واستقروا فيها رضوا عن الله سبحانه كرضاهم عن الله في الدنيا كما قال
أبو قلابة رحمه الله : رضاك عن الله أن تتلقى أوامره من غير ضجر .
وتأبيد الكفار في النار ورد في القرآن ثلاث مرات : في النساء والأحزاب
والجن .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
* ) ذلك لمن خشي ربه ( المسألة مربوطة بسببها .
ذلك الجزاء يناله من خشى ربه والخشية أكمل من الخوف .
لأن الخشية مقترنة بالعلم ، وأيضاً نقول:
لأن الخشية خوف وزيادة , لكن:
ما هذه الزيادة ؟ الزيادة هي التعظيم .
فالخشية تكون :
خوف وزيادة ، والزيادة التي معها هي التعظيم .
يعني يُعَظِمون الله عز وجل .
والتعظيم يستدعي العلم لأنك لا تُعَظِم مجهولاً, لا تُعَظِم إلا معلوماً
وهو ربك عز وجل .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
بارك الله مجهودكم
ردحذفجزاكم الله خيرا
ردحذفجزاك الله خيرا
ردحذفبارك الله فيكم على هذه التأملات القرآنية
ردحذفجزاكم الله خيرا
ردحذفماشاءالله ربنا يبارك فيكوا
ردحذفجزاكم الله خيرا
جزاكم الله خير
ردحذفوقفات تدبرية رائعة .. جزاكم الله الجنة ونفع بكم
ردحذف