الاثنين، 3 فبراير 2014

تـأمــلات في سـورة البينــة



الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

نبدأ درسنا التدبري مع سورة البينة وآياتها ..

* موضوع سورة البينة في تأسيس التوحيد وتقرير العبودية لله تعالى وإخلاص العمل له .

 
* روى الإمام أحمد والشيخان البخاري و مسلم من حديث أبي حبة البدري الأنصاري رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب : يا أبي ! إن الله تعالى أمرني أن
أقرأ عليك سورة البينة، فقال أبي رضي الله عنه : وقد سماني لك يا رسول الله ؟! قال: نعم ،
فبكى أبي رضي الله عنه ..

قال له بعض الصحابة : أفرحت يا أبا المنذر ! قال : ومالي لا أفرح والله عز وجل قد قال :
) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( [يونس:58].

قال الإمام القرطبي رحمه الله:

وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ؛ ليعلم الناس التواضع ، ولئلا يأنف العالم عن القراءة على من هو دونه، أو أقل منه .

وقال العلامة العثيمين رحمه الله :

أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ سورة البينة على أبي بن كعب رضي الله عنه ، وذكر هذه السورة بخصوصها لأن أبيا رضي الله عنه كان من أهل الكتاب أولا ، فأراد الله من قراءة نبيه عليه أن يبين حال أهل الكتاب ، وما من الله به على أبي حيث أسلم حين جاءته البينة .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

 * ذكر المفسرون لسورة البينة ستة أسماء فسموها :

البينة ، والقيمة ، وأهل الكتاب ، ولم يكن ، والانفكاك ، والبرية ..

وهذه كلها من أسمائها، ونحن نعرف من علوم القرآن أن بعض السور لها أكثر  من اسم .

( من أهل الكتاب) من لبيان الجنس وليست تبعيضية والمعنى : لم يكن الذين كفروا سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ..

ولذلك من الخطأ وقوف البعض عند قوله تعالى ( أهل الكتاب) .

فيقرأ ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) فيقف .

ثم يستأنف ( والمشركين منفكين) فهذا يفسد المعنى ..

وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، باعتبار أن أصل دينيهما كتاب سماوي:

التوراة ، والإنجيل ، أما المشركون فيدخل فيهم عبدة الأوثان، وعبدة النيران، وعبدة الكواكب والنجوم من العرب وغيرهم .

الكفر اسم جنس يجمع أهل الكتاب مع المشركين ، كما قال الله عز وجل في سورة التوبة :
) يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ([التوبة:30].

قوله: ( مُنفَكِّينَ ) مأخوذة من الانفكاك وهو فصل الشيء عن الآخر .

أي : لم يكونوا مزايلين و مباينين وتاركين ما هم عليه من الكفر ( حتى تأتيهم البينة) حتى غائية وليست تعليلية والبينة هي: كل ما أقيم لإظهار الحق ، وهو الرسول كما بينته الآية التي بعدها .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

*( رسول من الله )

وأضاف الرسول هنا إليه – عز وجل – لشرفه ، لأن :

( النسبة إلى الشريف يَشرُف بها الإنسان )

أما صفات هذا الرسول ، فقال: ( يتلو صحفاً مطهرة ) .

* قوله : ( صحفا ) هو القرآن وسمي بذلك لأنه مكتوب في الملأ الأعلى في صحف

( مطهرة ) أي: مطهرة من الشك والريبة والباطل والنقص والخلل، ومطهرة من أن تتضارب وتتناقض، ومطهرة من الشرك والكفر.

قوله تعالى: ) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ([البينة:3].

قال بعض أهل العلم :

الكتب هي القرآن ، وسمي كتباً باعتباره سوراً وباعتباره موضوعات فيها هذه الأحكام، وهذه القصص، وهذه العقائد، ونحو ذلك. وقال بعض أهل التفسير: بل الكتب القيمة المقصود بها ما
كان قبل القرآن ، وكل ما فيها من علوم ومعارف أودعها الله في القرآن ، وهذا هو منطوق القرآن ، يقول الله عز و جل : ) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( .

ومعنى قيمة في غاية الاستقامة والعدل .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

*قال الله تعالى : ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ( [البينة:4].

لقد تفرق أهل الكتاب واختلفوا، وتفرق المشركون أيضاً، فمرة يقولون: ساحر، ومرة : كاهن ، ومرة : مجنون ، ومرة : شاعر ، ومرة : يكتب أساطير الأولين ، و مرة : إنما يعلمه بشر.

يقول الله عز و جل : ) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ([الذاريات:10] ، أي : الكذابون .

وقال : ) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ([الذاريات:8] أي : كل يوم عندكم كلام يختلف عن الذي قبله .

والاختلاف والتنازع يردان في القرآن على سبيل الذم ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) .

وقد خصَّ الله أهل الكتاب بالذكر في قوله : ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ([البينة:4] .

قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره :

قصد الآية التشنيع على كلام مسوق لغاية تشنيع أهل الكتاب خاصة ، أي : لأن عندهم كتباً ،
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه ، وصفته ، ومولده ، ومهاجره .
وقد قال الله عز وجل : ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ([البقرة:146] .

وقال عيسى عليه السلام : ) وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ( [الصف:6] ،
فكان الواجب عليهم ألا يختلفوا ، لكنهم عياذاً بالله ما تفرقوا جهلاً ، وإنما عمداً .

والأشياء التي جعلها الله تعالى ارهاصات وتقدمات بين يدي هذا الرسول كلها تعينهم على قبول هذا الحق, وعلى الدخول في الدين.. لكن الذي حصل عكس ذلك..

( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة )

كانوا قبل ذلك.. غير متفرقين, كانوا مجتمعين ينتظرون هذا الرسول, وكانوا يفتخرون بانتظاره, وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا, وكانوا يتوعدون به – أيضاً – أعداءهم ..

لكن :

الذي حصل ما قال الله تعالى به هنا: إنهم ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة .

إذاً.. الخير الذي بُعث لهم زادهم شرّاً, وزادهم كفراً إلى كفرهم, وهذه .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

أيها الأخوة :

من المصائب والنوازل أن الخير يكون شرّاً على بعض الناس, وأن الهُدى يكون عمىً على آخرين .

الخير لا يأتِ إلا بخير في الغالب .

لكن إذا وافق غير محل فإن ؛ الخير يكون شرّاً لأصحابه .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

* ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي: عبادة لا يخالطها شرك ، ولا رياء ، حنفاء مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وعن الضلال إلى الهدى.

والحنيفية :

هي دين إبراهيم عليه السلام، أساسها التوحيد: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله.
قوله : ( حُنَفَاءَ ) أي: حنفاء لا يعبدون أحباراً ولا رهباناً. قوله : ) وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ([ البينة:5] .

هذه في دين كل نبي ، ولذلك أثنى الله على إسماعيل بقوله :

) إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ
مَرْضِيًّا ([مريم:54-55] .

وأثنى الله عز وجل على غيره من الأنبياء ، بل على أهل الكتاب عموماً فقال : ) لَيْسُوا سَوَاءً
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( [آل عمران:113]

فالصلاة والزكاة أساس في جميع الشرائع والأديان. قوله : ) وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( [البينة:5]
 أي: هذا هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل ولا انحراف.

ثم خصّ من العمل , عملين :

-         خص إقامة الصلاة ؛ لأنها العلاقة بين الإنسان وربه.

-         وخص ايتاء الزكاة ؛ لأن بها العلاقة بينه وبين خلق الله عز وجل .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

˜ يستفاد من قوله تعالى : ) إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (

يُستفاد أن الإخلاص في العمل سببٌ لعدم الفُرْقَة .

وهذه الفائدة نفيسة لو تأملتها .

لأن المُخِلص يريد ما عند الله – عز وجل –

والمخلص الثاني يريد ما عند الله عز وجل, والثالث وهكذا..

إذاً لن يَدُبَّ بينهم خلاف .

فالجميع سوف يكونون متوجهين إلى ربّ واحد, إلى خالق واحد..

فالإخلاص : سبب في دفع الفرقة والشقاق والخصام .

إذاً.. إذا دبّ خصام وشقاق وسوء تفاهم بين العاملين في أيّ مجال هم فيه .

فاعلم أن هذا يُؤشر إلى شيء في اخلاصهم فلينتبهوا لذلك .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

* قال الله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ([البينة:6].

أي : هم في النار ولا أمل لهم في الخروج، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراي ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله على وجهه في النار) خالداً مخلداً، يبقى فيها لا يخرج منها أبداً .

) أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ([البينة:6].

وفي بعض القراءات : )أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّئةِ (  من البرء أي: الخلق ، أولئك هم شر الخليقة ، شر من الدواب والكلاب ، والخنازير ، والثعابين .

قال الله عز وجل :) إِنّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( [الأنفال:22] .

وقال سبحانه : ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ([الأنفال:55].

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

* قوله تعالى : ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة (

ذكر الله تعالى وصفهم , قبل أن يذكر جزاءهم لأنه في الأول ذكر الجزاء ثم ذكر الوصف .

وهنا ذكر الوصف وأخرّ الجزاء, ليُبيّن أنهم إنما أخذوا الجزاء بهذا الوصف الذي هو من صفاتهم .

أي: هم خير خلق الله، وهذه الآية استدل بها من يقول: إن المؤمنين أفضل من الملائكة، وهذه المسألة من فضول المسائل التي لا يتعلق بالبحث فيها عمل.

قال تعالى : ) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ([البينة:8].

قوله : ) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ( الله عز وجل يسمي الجنة دار السلام ، ويسميها جنات النعيم ، ويسميها جنات عدن ، وعدن أي : إقامة ، ومنه سمي المعدن معدناً ؛ لأنه مستقر .
يقال : عدن فلان إذا أقام واستقر .

 فقوله : ) جَنَّاتُ عَدْنٍ ( أي : جنات إقامة أبدية لا يخرجون منها ، ولا ينامون ولا يموتون ولا يسقمون ولا يهرمون .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

* ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ([البينة:8] .

) ورضوان من الله أكبر ( أي : رضي الله عنهم بأعمالهم .

) وَرَضُوا عَنْهُ ([البينة:8] ، أي: لما دخلوا الجنة واستقروا فيها رضوا عن الله سبحانه كرضاهم عن الله في الدنيا كما قال أبو قلابة رحمه الله : رضاك عن الله أن تتلقى أوامره من غير ضجر .

وتأبيد الكفار في النار ورد في القرآن ثلاث مرات : في النساء والأحزاب والجن .

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

* ) ذلك لمن خشي ربه ( المسألة مربوطة بسببها .

ذلك الجزاء يناله من خشى ربه والخشية أكمل من الخوف .

لأن الخشية مقترنة بالعلم ، وأيضاً نقول:

لأن الخشية خوف وزيادة , لكن:

ما هذه الزيادة ؟ الزيادة هي التعظيم .

فالخشية تكون :

خوف وزيادة ، والزيادة التي معها هي التعظيم .

يعني يُعَظِمون الله عز وجل .

والتعظيم يستدعي العلم لأنك لا تُعَظِم مجهولاً, لا تُعَظِم إلا معلوماً وهو ربك عز وجل .


                                     ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

هناك 8 تعليقات:

  1. بارك الله فيكم على هذه التأملات القرآنية

    ردحذف
  2. ماشاءالله ربنا يبارك فيكوا
    جزاكم الله خيرا

    ردحذف
  3. وقفات تدبرية رائعة .. جزاكم الله الجنة ونفع بكم

    ردحذف