الأحد، 23 فبراير 2014

تأملات في سورة التين


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ،
وبعد ، فهذه تأملات تدبرية في سورة التين ،
*******************
* هذه السورة هي سورة التين، وربما سميت بالواو فقيل سورة والتين .
والمشهور وبعضهم يذكر أنه لا خلاف أنها مكية ، ثم موضوع السورة يؤيد أنها مكية .

* أقسم الله تعالى بالتين والزيتون لما فيهما من الخواص الغذائية .
وهذا قول للسلف ، أن قسم الله – عز وجل – بهاتين الفاكهتين : التين والزيتون .
وهناك قول آخر ، هو للسلف – أيضاً – وهو أن التين والزيتون لا يُراد بهما ذات الفاكهة والنبات المعروف ، وإنما في ذلك إشارة إلى مكان نباتهما وخروجهما . وهما ينبتان في بلاد الشام ، وبعضهم يُحدد يقول: دمشق وفلسطين وكلها من بلاد الشام .

والآية تشير إلى هذا المعنى :
أنها تشير إلى بلاد الشام لكونها موطناً لبني إسرائيل أو لأنبياء آخرين ، لكن أنبياء بني إسرائيل بالدرجة الأولى .

وهذا القول الثاني ، وأن الآية تشير إلى مكان الشام يُؤَيد بأن الله تعالى ذكر بعد
 ذلك أماكن فقال : ) وَطُورِ سِينِينَ*وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ  (، إذن هذا القول الثاني يترجح .

* يقسم الله تعالى بثلاثة أماكن هي من أطهر بقاع الأرض التي خصّها الله تعالى بإنزال رسله وأنبيائه دون سائر بقاع الأرض .
فبيت المقدس :
بعث الله‏ تعالى‏ فيه عبده ونبيه ورسوله عيسي بن مريم‏‏ عليهما السلام‏ .
وطور سينين :
كلم الله‏‏ عز وجل‏ عنده عبده ونبيه ورسوله موسى بن عمران‏ عليه السلام‏ .
ومكة المكرمة :
زارها معظم أنبياء الله ورسله‏ ومدفون بها عدد كبير منهم‏ ،‏ ثم بعث الله‏ فيها خاتم الأنبياء والمرسلين‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏ .
وفيها إشارة إلى ترابط النبوات وأن الأنبياء إخوة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
( الأنبياء إخوة من علّات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد ) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

*القسم بالبلد الأمين ليس إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث في البلد الأمين
فحسب ، وإنما إشارة إلى إبراهيم  أيضاً وأن محمداً هو مجدد ملة إبراهيم ومحيي دينه .

فيمكن أن نطبق قاعدة أخرى مرت علينا وهي :
أن الآية تُحمل على المعنيين ، ما دام ليس بينهما اختلاف ، فنقول:
إن الله تعالى أقسم بالتين والزيتون ذلك النبات المعروف ، وهي أيضاً متضمنة القسم بالإشارة
إلى أماكنها وأماكن خروجها .
فلا مانع أن يكون القسم في الأصل بالنبات ، لكنه يُشير إلى المكان الذي يخرج فيه

*******************

* جاء ذكر الزيتون وزيته في سبعة مواضع مختلفة من كتاب الله‏,‏ منها القسم
به مع التين في مطلع سورة التين‏,‏ وشجرة الزيتون شجرة مباركة وكذلك ثمرتها‏,‏ فهي شجرة معمرة قد تعيش لأكثر من ألف سنة‏,‏ وتعتبر من أهم نباتات الزيوت‏,‏ ويعتبر زيتها من أصح الزيوت 

* ) سِينِينَ  (ليست كلمة عربية وهي طور سيناء في مصر ، وردت في القرآن باسمين سيناء 
) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ([ المؤمنين : 20]

ووردت طور سنين وهي فيها اسمان يذكر أهل اللغة المحدثون أن هذه فيها لغتان : 
سيناء وسنين :
وهو جبل المناجاة الذي أنزلت فيه التوراة على موسى‏ عليه السلام‏ ،‏ وقد ذكره ربنا تبارك
وتعالي في اثنتي عشرة آية من آيات القرآن الكريم :

‏(‏ البقرة‏:93,63,‏ النساء‏:154,‏ الأعراف‏:171,143,‏ مريم‏:52,‏ طه‏:80,‏ المؤمنون‏:20,‏ القصص‏:46,29,‏ الطور‏:1,‏ التين‏:2),‏ وسميت باسمه إحدي سوره‏ (‏ سورة الطور‏) .

*******************

* جواب القسم ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ  (.
الإنسان ، هنا يُراد به الجنس ، فإذا كان كذلك فإنه يشمل المسلم والكافر ، خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم ، يعني : في أتم خلق .

فالتقويم هنا يراد به الخلق ، يعني أن الله تعالى جعل خِلْقَته قيّمة , على أتم حال .
كلام نفيس لابن القيم حول أحسن تقويم تجده في كتابه الماتع : مفتاح دار السعادة ، فإنه عقد
مبحثاً لخلقة الإنسان وأنها في أحسن تقويم .

* ما المراد بقوله : ) أَسْفَلَ سَافِلِينَ (، وهل هذا في الدنيا أو في الآخرة ؟
المسألة فيها قولان مشهوران :
1- فقد قيل إن الآية تتكلم عن الإنسان في الدنيا ، خلقه في أحسن تقويم في الدنيا , ثم رده أسفل سافلين في الدنيا .

قالوا: إن المراد بأسفل سافلين في الدنيا أنه يُرَدُّ إلى أرذل العمر, فيفوته كثير من حسن تقويم الخلقة الأولى ، بحيث تفوته قوته الأولى ، فبدلاً من كونه – مثلاً – يمشي قائماً ، لا يستطيع ذلك ، وغيرها .
2- إن الآية الكريمة لا تتكلم عن حاله في الدنيا ، بل تتكلم على حاله في الآخرة ، وذلك أن الله
تعالى يردُّه أسفل سافلين في النار فيما لو اختار الكفر.

وقالوا: إن أسفل سافلين تعبير يُراد به : دركات جهنم أن الله تعالى يرده في هذه الدركات .
الأقرب : والله أعلم هو القول الأول ، وأن الله تعالى رده إلى أسفل سافلين أي رده إلى أرذل العُمُر، بحيث فاته شيء كثير من قوته ومن نشاطه وذاكرته ، هذا هو الأقرب والله أعلم .

وهذا الذي رجحه شيخ المفسرين بالأثر ابن جرير – رحمه الله – فقد رجح
هذا واعتمده ، وهو مروي عن السلف كابن عباس وغيره .
أما ابن القيم – رحمه الله – فإنه اختار القول الثاني وأن ردّه أسفل سافلين يعني
بذلك في النار .

*******************

* ) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (.
هذا استثناء من الكلام السابق ، يبين لك ارتباط ) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (. 
على القولين :
1- على قول من فسر ) أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( بالكفر يكون المعنى : استثناء ، وأن الذي آمن وعمل الصالحات لا يُرَدُّ أسفل السافلين .
2- على القول الثاني : أن الذي يُرد إلى أسفل السافلين هو الرد إلى أرذل العمر، أن عمله لم
ينقطع بل نقول إن أجره لم ينقطع, لأن الله تعالى قال : ) فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ  (

* أقوال ثلاثة عبّر بها السلف معنى ممنون :
 يعني : 1- منقوص 2- محسوب 3- منقطع ،
هذه المعاني الثلاثة لنا أن نطبق عليها القاعدة : إن الأقوال غير المتعارضة تُحمل على الجميع .
فنقول : أجرٌ غير منقوص, وغير محسوب أيضاً, ومن باب أولى غير مقطوع .

* ) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (.

هؤلاء لا يردون إلى أسفل سافلين، هؤلاء في أعلى عليين في الدنيا والآخرة لذلك قال بعض
العلماء : 
المؤمن لا يشيخ أبداً، يضعف جسمه ، وينحني ظهره ، ويضعف بصره ويشيب شعره،
ولكنه لا يشيخ، لأن هدفه كبير، وعزمه متين .

* نستفيد من تنكير الأجر في قوله تعالى : )فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (.   
الكثرة والعموم والسعة فإن أجر الله غير منقطع .

*******************

* في قوله تعالى : ) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ( .     
ما بمعنى الذي الموصولة ، استفهام الغرض منه التهديد والإنكار .
يعني ما الذي يحملك على التكذيب ما دُمت عرفت أن الإنسان خُلِق في أحسن تقويم ، وأن
أجره مستمر .

ومما يُستفاد من قوله : ) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ  (انقطاع حجة المكذبين بيوم القيامة .

*  الحكمة من الحديث عن اليوم الآخر بعد الأجر لأنه يدفع للعمل الصالح ففي ذكر
اليوم الآخر وأن الإنسان سيبعث بعد موته ويحاسب على كل كبيرة وصغيرة ، ففيه ترغيب
للعمل الصالح وترهيب من عمل السيئات .


* ) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (
هذه الآية ، ما أعظمها من آية، وما أبردها على قلب المؤمن حينما يتأمل معناها ،
) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( ،الذي يضع الأمور في مواضعها الصحيحة ،
وقوله تعالى :  )بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( .

1- لنا أن نقول إنها مأخوذة من الإحكام ، يعني أن الله سبحانه وتعالى أحكم كُل شيء أنه أتقنه .
2- ولنا أن نقول إنها مأخوذة من الحكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها .

فالله تعالى أحكم الحاكمين: 
الذي أتقن الأشياء اتقاناً تاماً, لا مدخل لمعترضٍ عليه ، وكذلك :
هو أحكم الحاكمين من جهة الحكمة ، حيث وضع الأمور في مواضعها ،
أعطى في موضع العطاء, ومنع في موضع المنع ، وهكذا .

*******************

* يقول الإمام ابن باز رحمه الله : جاء فيه حديث ضعيف أنه -صلى الله عليه وسلم- 
كان إذا قرأ ) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( ، قال : بلى.
وأنا على ذلك من الشاهدين ، وإذا قرأ : ) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( .

) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ  (، آخر المرسلات ، قال : آمنت بالله وبرسله ، آمنت بالله وما أنزل
 ، وإذا قرأ آخر القيامة : ) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى  ([ القيامة : 40]
 قال: سبحانك بلى. ولكنه ضعيف إلا ما ورد في القيامة ، فهو ثابت عند قوله تعالى: 
) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ( ، يقال: بلى ، سبحانك بلى. هذا مشروع، أمَّا عند آخر
 سورة التين، والمرسلات، فهو ليس بمحفوظ .

جعلنا الله من المتدبرين لكتابه العاملين به

*******************

هناك تعليقان (2):

  1. جزاكم الله خيرا.
    من كاتب هذه الوقفات؟

    ردحذف
  2. سددكم الله وجعلكم كالغيث تنفعوا حيثما حللتم

    ردحذف