الاثنين، 17 فبراير 2014

تأملات في سورة العلق


الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ..
أما بعد : فهذه تأملات في سورة العلق ..

× إن الله عز وجل أول ما أنزل سوراً ثلاثاً هي أركان تربية القرآن للإنسان :
1/ ( سورة اقرأ ) وهي ركن العلم الذي لا حياة ولا نجاة ولا فوز لأحد منا إلا به .
2/ ثم نزلت سورة المدثر، سورة البلاغ والدعوة } يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ {.
3/ ثم نزلت سورة المزمل ، نزلت لتؤكد على قضية مهمة جدا وهي العبادة .

²²²²²²²²²²²²

× سورة العلق مكية بالإجماع لا خلاف في ذلك.
يقال لها سورة العلق, وربما قيل لها سورة } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ {.
وربما سميت سورة } اقْرَأْ {, وكذلك تسمى – وهي قليلة – بسورة القلم, ولكن من سماها سورة القلم يسمي السورة الأخرى التي تسمى بالقلم يسميها نون والقلم, وهذه التسميات الأمر فيها
واسع , إلا أن أشهر الأسامي فيها : سورة العلق .

× هذه السورة في نزولها على جزأين:-
الأول:
إلى آخر الآية الخامسة ،إلى قوله تعالى : } عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ { .
هذا هو أول ما نزل من القرآن على النبي – صلى الله عليه وسلم - .
وبدء الوحي مشهور في ذلك :- فإن النبي – عليه الصلاة والسلام – لما أراد الله تعالى إكرامه بتكليفه بالنبوة ثم الرسالة أرسل إليه جبريل – عليه السلام – في غار حراء ، لما كان يتعبد هناك ، ثم أمر جبريل النبي – عليه الصلاة والسلام – أن يقرأ , ثم قال : ما أنا بقارئ , ثم غطه الغطات الثلاث حتى بلغ منه الجَهْد,ثم أوحى إليه بأول سورة اقرأ ، علمَه الآيات الخمس ، ثم ذهب النبي   – عليه الصلاة والسلام – إلى أهله خائفاً وجلاً حتى تتابع عليه الوحي بعد ذلك .
هذا هو نزول أولها.
ثم آخرها :
نزل بعد ذلك على خلاف في الفترة الزمنية بين أولها وآخرها ، لكن الذي يهمنا أنها لم تنزل مرة واحدة إنما نزل أولها ثم لُحِق آخرها.

²²²²²²²²²²²²

× } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ {
هنا أمر له – عليه الصلاة والسلام – بالقراءة ، } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ {.
وأن تبدأ السورة بأمر القراءة للإنسان يبين أهمية كرامة الإنسان وعلو شأنه عند خالقه،
فالإنسان المخلوق الوحيد الذي أعطاه الله نعمة القابلية للتعلم والتعليم والتفكير من خلال نعمة العقل، وأعطاه نعمة الإرادة وحرية الاختيار والتمييز، وهو من حمل الأمانة ورضي بها عن باقي المخلوقات، مما يدل على حب الله له وتميزه عن غيره من مخلوقاته ..
وقوله تعالى – هنا – } بِاسْمِ { الباء هنا للاستعانة يعني ،اقرأ مستعيناً بربك.  هذا هو المعنى .

 وقال الامام الرازي في تفسيره حول هذه الآية :
[ إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولاً إلى المشركين ، لو قال له :  
اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له ، لأبوا أن يقبلوا ذلك منه ، لكنه تعالى قدم ذلك مقدمة
تلجئهم إلى الاعتراف به ] .
اقرأ باسم ربك الذي خلق كل شيء .

قاعدة:-
حذف المعمول هنا ليفيد العموم ، كما هو في قوله تبارك وتعالى :} اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ {.

²²²²²²²²²²²²

× } خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  { ولما عمم بطريق الحذف، خص بطريق الذكر فقال :                    
} خَلَقَ الْإِنْسَانَ { والإنسان هذا المخلوق الذي يرجع أصله إلى أبيه آدم .
وقوله تعالى : } عَلَقٍ  {  هذه مادة الخلق , وأن الله تعالى جعله من العلق .
والعلق،هذه المادة تدل على أن هناك تعلقاً والتعلق معروف ، شيء يرتبط بشيء والأمر كذلك .
فإن هذه المادة متعلقة بالرحم .
والمراد بها هي : قطعة الدم الصغيرة جداً ،هذه هي العَلَق ، وسميت هذه القطعة من الدم بعلق
لأنها متعلقة بالرحم .

    ²²²²²²²²²²²²

× } اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ *{ ..
كلما قرأت زادك علما و فقها وذلك من كرمه سبحانه، فأنت إن أقبلت بصدق النية والإخلاص
على الله فلا تخاف عدم الفتح عليك من كرم علمه فهو الأكرم وفوق كل كريم، وإن كنت كريما
على الناس بتعليمهم ما علمك الله فهو الأكرم منك، فهو من كان سببا في ذلك الفضل عليك برزقك إياه ورفع شأنك بين الناس بفضل ذلك العلم .

وهذه الآيات الخمس..
التي ابتدأ بها الوحي ، وفيها الموضوع العظيم .
وهو الإشادة بمنّة الله تعالى على عباده في التعليم وفي القراءة على سبيل الأخص..
باعتبارها سبيل العلم..

الكتابة هي سبب من أسباب تقييد العلم ، والكتابة – ليست عيباً في الطالب ، فقد كان السلف الجهابذة الذين هم جبال في الحفظ كانوا يعتنون بالكتابة .
وقد ذكروا أن الإمام أحمد – رحمه الله – أنه لا يُحدِث إلا من كتاب، مع أنه حافظ الدنيا في وقته, وبعد وقته والله أعلم ، لكن لا يُحَدِث إلا من كتاب, ولا يعتبر هذا نقصاً فيه, بل يعتبر هذا من ضبطه ومن ثقته.

× } كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى  {
هذه الآية, وإن كان بينها وسابقاتها فاصلٌ زمني لكنها بينها وسابقاتها اتحاد معنوي، بينها ارتباط ، كيف ذلك؟
لما سبق أن الله تعالى.. علم الإنسان وجعله يقرأ وعلمه ما لم يعلم هذه نِعَم, كيف قابل هذا الإنسان هذه النِعَم قال الله تعالى:
} كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى  {وهذا لا يليق ، لأنه الآن كُرِّم وعُلِّم .

فحقُ النعمة أن تُقابل بالشكر لكن تفاجأ الإنسان بهذه الحال ، أنه طغى !!..
ما الذي يمنع الإنسان أن يطغى ويضبط نوازع الشر عنده وينير قلبه للخير ؟..
إنه الإيمان والتقوى والخوف من الله التي اكتسبها بعلمه ومعرفته لله ، وتسخير                  كل ما تفضل عليه للإصلاح في الأرض ونصرة دين الله .
²²²²²²²²²²²²
× قوله تعالى : } أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى {هي من حيث المعنى ، تعليلية.
لماذا يطغى ؟
لأنه رآه ، أو رأى نفسه استغنى عن خالقه !! وهذا منتهى الحماقة في الإنسان .
أن يظن أنه مستغنٍ عن خالقه.. هذا جهل عظيم..
وسين } اسْتَغْنَى {، سين الطالب والمعنى أن الإنسان رأى أن نفسه إنما نالت الغنى لأنها طلبته وبذلت الجهد في الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد ، لا أنه نالها بإعطاء الله وتوفيقه ، وهذا جهل وحمق فكم من باذل وسعه في الحرص والطلب وهو يموت جوعاً .

²²²²²²²²²²²²

×قال الله منبهاً هذا المستغني الذي غرّه ما وجد في نفسه : } إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى  {
هل هو في يوم القيامة ، كما هو المتبادر ؟
بمعنى إذا مات الإنسان يُبعث ويُرجع إلى ربه..
أو لنا أن نعممها بما هو أشمل من ذلك ، أرأيتم لو أن إنساناً استغنى .
ثم صار عنده شيئاً من الطغيان ، ثم أصيب بشيء يسير في صحته , أصابه مرض إلى مَنْ يرِجع ؟!
إلى الله عز وجل ،ويبدأ يعيد حساباته ويُقلِب ويندم ويعرف أنه الآن أخطأ .                    
هذا المرض جعله يرجع إلى ربه .
فقوله تعالى : } إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى  { هي في الرجوع الأكبر الذي في يوم القيامة , وفي الرجوع الذي قبل ذلك ، في رجوعه عندما تحل به كارثة أو مصيبة وما أشبه ذلك وهذا الواقع شاهد بذلك ،
لكن.. انتبه أن يكون رجوعك من باب الضرورة ، من باب الضرورة على حدّ ما يفعله المشركون .
} فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ {
هذا الرجوع لا يُغني كثيراً ، لكن الرجوع الذي يُغني ، الرجوع الذي يكون بالاختيار
وهذا يكون في حال السراء قبل الضراء .
²²²²²²²²²²²²
× ثم تنتقل السورة للتحدث عن أعظم الطغيان والظلم والحرمان للناس، والذي تمثل منذ بداية الدعوة بأبي جهل ومحاربته لرسول الله  ودعوة التوحيد التي جاء بها .
قوله تعالى: } عَبْدًا{  .
قلنا هو النبي – عليه الصلاة والسلام – لكن هذا التنكير له فائدة .
 لم يقل : أرأيت الذي ينهى عبدنا, أو أرأيت الذي ينهى النبي إذا صلى .
قال عبداً ،هذا التنكير نقول عنه : إنه للتعظيم فعليه نستفيد هذه الفائدة .

فائدة:
من فوائد التنكير – التعظيم
كما أن من فوائده – أيضاً – التحقير في سياق آخر .
س/ هل نجعل أيضاً من فوائد التنكير هنا.. التعميم؟
نعم كيف ذلك : بحيث قال إنه نهى النبي – عليه الصلاة والسلام – ولكن الحكم ليس مربوطاً به .
الحكم مربوط بهذا الوصف ، وهو وصف العبودية فعليه .
من نهى عبداً.. وإن لم يكن هو النبي – عليه الصلاة والسلام – فإنه داخل في الوعيد الذي سوف يأتي..

إذن نقول:-
} عَبْدًا{  منكرة ، لإفادة ، التعظيم والتعميم ، في كل من يسير على طريق هذا الذي ينهى ، ووعيد من الله لكل من حال دون خير. 

²²²²²²²²²²²²

× في قوله تعالى : } عَبْدًا{  .
} أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى {  .
فعل مضارع مع أن القصة وقعت وانقضت بمعنى: ما قيل: أرأيت الذي نهى عبداً.
فيقال:
} يَنْهَى {  هنا أبلغ ، لماذا ينهى أبلغ ؟
 لأنها تعطيك التصوير للحال ..
كأنه الآن من شدة فعله ومن قُبح ما أقدم عليه كأنه الآن ينهى .
فجرمه انقضى في الواقع ، لكنه لسوئه وقبحه كأنه مستمر .
فالإتيان بهذا الفعل المضارع لاستحضار الحال السيئة من هذا الشقي .
ومعناه :  أعلمت أنه ينهى عبداً إذا صلى وهو على الهدى.. وهو على التقوى ويأمر بالتقوى .
معناهما تقبيح والتشنيع على هذا ، وأنه فعل فعلاً لمن لا يستحقه ، فمثل هذا .              
 حقه الاحترام والإتباع والتأييد ليس حقه أن يُنهى .
} أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى {  .
يستفاد من هذا أن الصلاة هدى , فالمصلي مَهْدي .

²²²²²²²²²²²²

× } أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى {  وهذه بحدّ ذاتها زجرٌ لكل متهور متسلط على أحدِ من عباد الله .

× في كل شيء تجد رحمة الله تتجلى حتى مع أهل الطغيان والفساد ، فانظر إلى أثار
رحمته كيف يريد الله سبحانه لهؤلاء الطاغين أن يعودوا إلى رشدهم وسلامة عقولهم بالانتهاء
عما يفعلون من محاربه الحق والعودة إلى صفوف الإيمان } كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ { .

× } لَنَسْفَعَنْ {  الألف التي في آخر الفعل هذه يقولون منقلبة عن نون ،وأصلها : 
لنسفعن – ن خفيفة ، وهذه النون الخفيفة هي نون التوكيد .
مثلما تقول : لأضربن , لآكلن نون توكيد .
 لكنها كتبت بالألف يقولون: مراعاة للوقف.

²²²²²²²²²²²²

× } نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ {  .
هذا وصفها ، أنها ناصية كاذبة ، وكذلك خاطئة .
يقولون: إن الآية الكريمة هي باعتبار صاحبها .
ناصية – كاذبة – يعني صاحبها ، خاطئة – يعني صاحبها .
لأن الناصية جزء من الإنسان.. فهي ليست محل التهديد, ومحل العقاب بذاتها
لكن:
المتُوَعَد والمُهَدد هو نفس الإنسان .
 إذن: ناصية كاذبة خاطئة – المعني بذلك صاحبها
وهذا معروف ، أن العقاب لن يكون على الناصية وحدها بل سيكون على صاحبها .
أصحاب الاعجاز القرآني العلمي يذكرون شيئاً في قوله : } نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ {  .
ويقولون إن الله تعالى أضاف الكذب والخطيئة إلى الناصية.
قالوا: لأن الناصية هي محل ذلك.
الناصية التي هي جزء من الرأس هي محل التكذيب ومحل الخطأ, فمركزه في ذلك المكان .
وهذا ليس ببعيد لأن الله – سبحانه وتعالى – جعل لكل شيء قَدْراً، ومكاناً في البدن
فإن كان كذلك فالأمر واضح وإن لم يكن فالمراد على كل حال صاحبها .
والخاطئة عن عمد والمخطئة عن جهل أو عن غير تعمد.

²²²²²²²²²²²²

× } نَادِيَهُ { النادي هو مكان الاجتماع .
وفيها وعيد الله على من افتخر بجاهه بالباطل .

× والزبانية هم الملائكة والزبانية جمعٌ مفردها زباني .
ولكن:
تسمية الملائكة بالزبانية فيها مراعاة للمعنى اللغوي.
لأنا قلنا : مفردها زباني .
 إذن هي مشتقة من الزبن ، والزبن هو الدفع [ ليس المنع].
إذن هؤلاء الملائكة فيهم شدة، حتى إنهم يدفعون من يقبضون عليه.
فغلب الوصف عليهم فسمْوا زبانية.

²²²²²²²²²²²²

× } كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ {
فائدة مهمة :
وهي أن مما تُدفع به أذية أعداء الدين وكيدهم هو العبادة لله – عز وجل –
وعلى الأخص الصلاة التي بعضها سجود .
وهذه الفائدة واضحة في الآية.. التي دل عليها قول النبي عليه الصلاة والسلام "
العبادة في الهرج كهجرة إليّ"
وهذه مسألة قد لا يتصورها الإنسان في بادئ الرأي .
 فيقال :
كيف الآن زمن أعداء وزمن فتن وزمن كيد, ثم تندبون الناس للعبادة..
تقولون لهم: صلوا وصوموا وما أشبه ذلك ، لكن نقول : لا غرابة.
لأن حفظ هذا الدين بالسبب الظاهر والسبب الخفي
السبب الخفي هو صلاح الأمة, واستقامة أهلها.
والسبب الظاهر هو بالجهاد ومنازلة الأعداء..
فأحدهما لا يُغني عن الثاني..
ولذلك كان الصحابة – رضي الله عنهم – قبل جهادهم أعدائهم كانوا يتفقدون الجيش فإذا وجدوه على عبادة وقيام ليل وصيام في النهار شرعوا في قتالهم
القتال الحسي فهذه مسألة لا تستهن بها.
وهناك ترابط وثيق بين سورة العلق والسورة التي تليها وهي سورة القدر ،
فكأن سائلا يسأل : أن سورة العلق هي أول ما نزل من القرآن ، فمتى نزل ؟
فيأتي الجواب : نزل في ليلة القدر .

نفعنا الله بكتابه العظيم .. وجعله شاهدا لنا لا علينا ..

²²²²²²²²²²²²

هناك 9 تعليقات:

  1. استفدت من المقالة فجرى الله الكاتب خير جزاء

    ردحذف
  2. جزاكم الله عنا خير الجزاء لقد أفتونا كثيييراً بارك الله فييييكم

    ردحذف
  3. اللهم بارك أكثر من رائع في الفهم وسلاسة الكلمات

    ردحذف
  4. جزاكم الله عنا خير الجزاء وجعلها في ميزان حسناتكم

    ردحذف
  5. شكر الله لك بما أمتعتنا به في هذا السياق التدبري المبارك، نفع الله بكم وسددكم

    ردحذف
  6. تاملات في سورة المدثر

    ردحذف